زجاج..
هنا مقاربة قد لا نلتفت إليها كثيرا بين الزجاج وبين كثير من اشتغالاتنا اليومية؛ فاللمعان، والصفاء، والنقاوة، والشفافية المطلقة توجد في نوع من الميلان إليه حتى وإن خالطه اللون؛ حيث يتيح لك الرؤية البصرية من الجهات الأربع. ولأنه بهذا الوضوح يميل الكثير من الناس لاقتنائه؛ لحفظ كثير مما يودون من مقتنياتهم؛ حيث تبقى هناك متعة بصرية من خلف الزجاج -خاصة للأشياء الثمينة- مع الأخذ في الحسبان ضعفه، وتعرضه للتهشم وربما التكسير من أقل ثقل قد يسقط عليه. وبقدر هذه الأهمية الـمفرطة في الاهتمام بالزجاج؛ فقد حرص الأفراد على إسقاطه على كثير من أنشطة الحياة اليومية التي يقومون بها؛ للأسباب التي ذكرت أعلاه؛ وذلك لخوفهم أن تغرق أنشطتهم وعلاقاتهم في متون التشويه أو الغموض. فالزجاج كمادة لا يقبل التشويه؛ فصفاؤه المطلق يحول دون قبول تشويه صورته الناصعة، ولمعانه البراق، وكمعنى ضمني يذهب إلى الشفافية والرقة والصفاء.
يسقطه الناس على أفعالهم؛ لحرصهم أن تبقى العلاقات بينهم صافية شفافة لا يكدرها مكدر، ولا يقبل أن تعيق التشوهات النفسية صور هذه العلاقات، وأن يكون هناك متسع لقبول الآخر المختلف، عنا: رؤية، ومواقف، وقناعات، وتفكيرا عالي السقف «خارج الصندوق»، ونسف مقولة: «من لم يكن عندي فهو ضدي»، والتخلص من التبعات الوجاهية المبالغ في تنفيذها، وشيوع الرضى والاطمئنان للآخر، ومع الآخر، والإيمان المطلق بأن المراوحات الصدامية التي تحدث بين الأفراد غير مؤبدة، وقابلة للتغيير والتنازل عن مسبباتها؛ كل ذلك وصولا إلى كثير من الالتحام الإنساني الجميل، واحترام الآخر في كل مستوياته الاجتماعية، والمادية، والحرص على البقاء الأفضل لإنسانيته، للخلاص الموجود في هذا الكون؛ أن لا بقاء سرمديا في هذه الحياة؛ فجميعنا راحلون مهما طالت المدة. ولأن الحال كذلك؛ فلما إذن نشوه الصورة اللامعة للأغلفة الزجاجية التي نحيط بها أنفسنا في مختلف المواقف والمواقع، والممارسات، والأنشطة التي نتعاطى بها مع الآخر؟ أليس من الأجدى أن تبقى لامعة في بعدي تعاملاتنا الأفقية والرأسية، ولا نعرضها للكسر، أو على الأقل للتهشم؟ يروى عن الخليفة عمر بن الخطاب قوله: «لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً».
يردد الناس دائما: «من كان بيته من زجاج فلا يرمي الآخرين بالحجر»؛ لأن التعامل القائم بين مختلف الأطراف «يفترض» أن يكون قائما على الشفافية، وعدم المخادعة، وعلى الصدق وعدم المراوغة، وبالتالي فمتى أخل أحد طرفي العلاقة بهذا العقد تشوهت الصورة القائمة، ولبس المجتمع صورا باهتة من التعامل، ومن التعاطي، ومن عدم الاطمئنان؛ وذلك لاعتبار أننا كلنا مخطئون، كلنا معرضون للتشويه، و«الخربشات» الانفعالية. وعندما تكون هذه الصورة غالبة على مجمل التعامل بين أفراد المجتمع يدخل المجتمع في متون البيئات غير النظيفة؛ فلا يأمن الأخ أخاه، ولا الصديق صديقه؛ حيث يتوغل سرطان الخوف والتوجس مجمل العلاقات والتعاملات بين الأفراد، وتتهاوى النتائج على منصات المحاكم، وهذا الأمر ليس من صفات المجتمعات الآمنة المطمئنة على ذاتها؛ ولذلك يضاف: «إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاج كسرها لا يجبر»؛ حيث يتوغل التوجس والحقد بين الأنفس. ولأن كسر الزجاج لا يجبر، وإن جبر تظل تشققاته واضحة مشوهة لنصاعته إلا بإعادة تدويره من جديد؛ فإن النفوس ذاتها تحمل ذات الصورة المشوهة. ومشكلة النفوس أكثر ضررا؛ لأنها غير قابلة لإعادة التدوير، كما يروى عن سعيد بن المسيب قوله: «كتب إليّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «أن ضع أخاك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً».
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عُماني
