ذكريات للبيع.. غزيون يودّعون أثاث بيوتهم على طريق النزوح
«لم أتخيل يومًا أن أضطر إلى بيع نصف أثاث منزلي كي أحمي أولادي من القصف».. هكذا قال أبو رضوان ماضي (49 عامًا)، نازح من بيت لاهيا (شمال القطاع)، أمام محله لتقطيع الأخشاب توقف عندها في مدينة غزة، لبيع عفش شقته. كان الرجل وزوجته واثنان من أبنائه (ذكر وابنتان) قد تجمعوا تحت خيمة بدائية على أطراف المدينة بعد سقوط قذائف متتالية على حيّهم.
وجد أبو رضوان نفسه مضطرًا لبيع قطع من غرفة المعيشة وصالون البيت وموقد الغاز القديم، لكي يؤمّن ثمن وقود الشاحنة التي ستقلّ العائلة إلى جنوب القطاع. فرضت الظروف الصعبة وارتفاع كلفة المواصلات هذا القرار المرّ عليه، فكل لتر وقود وكل تذكرة مواصلات أصبحت لا تقدّر بثمن.
أبو رضوان أضاف بنبرة يشوبها الألم خلال حديثه لـ«عُمان»: «أطفالنا لم يعودوا يعرفون معنى المدرسة أو اللعب في الحي. أصبحوا يبحثون كل يوم عن لقمة خبز أو شربة حليب في المدينة التي تهطل عليها النيران».
يعاني الأب من تزايد حالات الجوع والإصابات بين العائلات النازحة؛ فقد تشرّد عدد كبير من جيرانه تحت القصف ولم يعد لهم أثر. كان الصغار ينظرون إليه بعيون مليئة بالخوف، بينما كانت الشمس تغرب سريعًا في الخيم الصغيرة. في هذا المشهد المأساوي، بدا أثاث المنزل متناثرًا تحت الخيمة المتهالكة بجوار ركام مبنى مدمر، شاهدًا على هشاشة حياتهم.
وأمام محل الأخشاب، وجه أبو رضوان نداءً استغاثيًّا إلى الدول العربية والمجتمع الدولي. قال: «انظروا إلينا نحن الفلسطينيين؛ أطفالنا بحاجة إلى حصص غذائية وملابس دافئة وعلاج وأماكن آمنة. لقد اضطررنا لبيع ممتلكاتنا مقابل البقاء على قيد الحياة». اختتم حديثه بنداء يائس طالبًا فيه دعمًا عاجلًا: «لقد بعنا أثاثنا لشراء الأمل؛ فلا تتركوا هذا الأمل يموت».
أوامر النزوح
ليس أبو علاء وحده في هذه المأساة؛ فالوضع في مدينة غزة وشمال القطاع برمته بات مأساويًا؛ نتيجة الأوامر العسكرية الإسرائيلية المتكررة بإجلاء السكان. منذ 10 أغسطس الماضي أصدرت قيادة جيش الاحتلال أوامر متتالية بإخلاء مناطق عديدة، بدءًا من مدينة غزة ومحيطها وصولًا إلى الشريط الساحلي والشمال الغربي من القطاع. فقد شرع الجيش في دفع الأهالي للخروج تحت وطأة القصف، حيث لم يعد أمامهم ملاذ آمن. انطلقت القذائف تجاه الأبراج السكنية المأهولة وقتل كثيرون تحت الركام، فيما كانت رسائل الإخلاء تُوزّع فجأة عليهم.
واجه النازحون الأمر بقلق عميق، إذ أمرهم الجيش بالنزوح جنوبًا سريعًا إلى منطقة المواصي في خان يونس، التي وصفتها إسرائيل سابقًا بمنطقة «إنسانية» آمنة. غير أن ما حصل كان على العكس؛ فقد تواصل القصف هناك، وفقًا لتقارير منظمات رصد حقوقية مثل «المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان».
بخلاف ذلك أصبحت منطقة المواصي مكتظة جدًا بالنازحين. ففي أحد شوارع النزوح المزدحمة ظهرت شاحنة صغيرة محمّلة بالأغطية والأثاث تخترق زحام الأسر المتكدسة في العراء باحثةً عن موقع خالٍ للراحة.
ترافق ذلك مع انعدام كل ضمانٍ للسلام؛ إذ هدمت الغارات العديد من الأبراج والوحدات السكنية في مدينة غزة وغيرها من مناطق القطاع. يقول شهود عيان لـ«عُمان» إن الجيش الإسرائيلي دمّر على أكثر من خمسين برجًا سكنيًّا خلال الحملة الأخيرة في محاولة لفرض مزيد من النزوح.
ومع تصاعد هذه الهجمات، عبّر الأهالي عن مخاوفهم من هجوم بري وشيك، خاصة بعد إعلان جيش الاحتلال أن غرض المعركة هو «احتلال مدينة غزة بالكامل». في ظل هذا الواقع، يبدو أن السكان قد فقدوا الثقة بوجود ملاذ آمن في الجنوب أو في أي مكان آخر.
لا خيار آخر للبقاء
خالد أبو موسى (41 عامًا) من سكان مدينة غزة، يروي تجربته بنفس مأساوي. قال لـ«عُمان»: «في صباح أحد الأيام، وجدنا منشورات تدعو سكان البرج الذي نسكنه إلى الإخلاء فورًا. لم يتسن لنا سوى ساعات لنغادر». استيقظ خالد وزوجته ليجدوا جيرانهم يهرعون إلى الشارع بملابس النوم حاملين بطاقات الهوية والأوراق الضرورية فقط. لم يبقَ أمامهم خيار إلا حمل الحاجيات الأساسية؛ فقد أخذوا معهم الثلث الأخير فقط من أمتعتهم بعد أن حطموا وباعوا الثلثين الآخرين.
يصف خالد تلك اللحظات بأنها «ساعة من الألم الخالص». يقول: «كنا نأمل أن نحتفظ على الأقل بقطع أثاثنا الجميل، لكننا فعلنا العكس تمامًا». فقد قام مع أفراد عائلته بكسر الأبواب القديمة والأسرة الخشبية إلى قطع صغيرة، ثم باعوا ما استطاعوا بيعه للحصول على السيولة النقدية، التي ستساعدهم على استئجار سيارة للنزوح.
كانت خطاهم سريعة ومثقلة مع الأطفال الذين يسألون عن المستقبل، فيما تغيب الشمس خلف دخان الحرب. يختتم خالد حديثه بحسرة: «تحطيم أثاث المنزل أشبه بتدمير جزء من ذاكرة طفولتنا، لكننا لم نجد خيارًا آخر للبقاء على قيد الحياة».
بيع الذكريات للورشة
أمام محل أخشاب في مدينة غزة، حيث يمر النازحون، يجلس الشاب محمد العطار (32 عامًا)، على كنبة أنتريه متهالكة، يحكي ما يراه يوميا من مشاهدٍ صادمة. لم يتخيل يومًا أن أدواته في الورشة تتحول إلى بوابة للنازحين؛ فالناجون الذين يفرون من المنازل المحطمة يأتون إليه بعرباتٍ محمّلة بالأثاث القديم والأواني المنزلية.
يقول محمد لـ«عُمان»: «نراهم يبيعون الأسرّة الصغيرة والخزائن ليجمعوا شواكل يؤجرون بها عربة نقل أو تروسيكل أو يبتاعون بعض الطعام لأطفالهم».
ويشرح محمد أن معظم النازحين لا يمتلكون أي نقود، فهم «بحاجة ماسة إلى كل قرش يمكنهم جمعه». ويضيف: «يحاولون في البداية الحفاظ على ممتلكاتهم، لكن غالبًا ما ينفد صبرهم، فيبدأون ببيع كل ما يحمل قيمة: أولاً الأثاث الكبير، ثم الصغير، ثم حتى بعض الأواني النادرة». ومع كل عملية بيع، يعمّق الأسى قلبه: «في كثير من الأحيان، يبيعون كل ما بقي لديهم ليشتروا به مؤنة النزوح. لم يعد لديهم خيار».
يخلص محمد إلى أن ارتفاع الأسعار وانعدام الأمان دفع النازحين إلى التخلي عن كل ممتلكاتهم بلا هوادة. في كل صباح، يرى مزيجًا من البسط القديمة وقطع الغرف والكتب المدرسية المرمية على الأرض أمام ورشته، ودائمًا ما تنطوي الصفقة على بقايا بيت مكلوم. يوضح بنبرة حزينة: «هذه الكارثة تظهر حتى في أبسط الأشياء؛ فالناس لم يصبحوا تجار أثاث بمحض إرادتهم، بل أصبحوا يبيعون جزءًا من تاريخهم وحياتهم».
في ختام حديثه أشار محمد إلى مشهد غالبًا ما يختتم به يومه: «رأيت شاحنة نصف نقل تزدحم بالأغطية والأواني، وكان يعلوها طفلان ينظران إليّ نظرة ملؤها التساؤل والخوف. هذه الصورة أكثر مأساوية مما يمكن أن تعبر عنه الكلمات».
