كيف تمكّن البيروقراطية البريطانية جرائم الإبادة الإسرائيلية

09 سبتمبر 2025
09 سبتمبر 2025

ترجمة: بدر بن خميس الظفري -

على مدى السنوات الأربع الماضية كان عملي يقوم على مراجعة بيانات الحكومة البريطانية، ووثائق السياسات والقوانين، ثم إعداد مذكرات للنواب تكشف بدقة عن الحيل اللغوية والقانونية التي تلجأ إليها الحكومات المتعاقبة لتبرير تصدير الأسلحة رغم وجود أدلة قوية على أن هذه الصادرات تُستخدم في ارتكاب جرائم حرب. ومع مرور الوقت أدركت أن هذه الوثائق وهذه الحجج القانونية ليست سوى بيروقراطية للإبادة الجماعية.

صحيح أن بعض كبار الوزراء البريطانيين غيّروا نبرة خطابهم مؤخرًا بشأن المجاعة في غزة، غير أن ذلك ترافق مع إنكار أعمق لمسؤولية بريطانيا، بما في ذلك استمرارها في تصدير الأسلحة إلى إسرائيل.

في مقابلة إذاعية على محطة (إل. بي. سي) هذا الصيف قال وزير الخارجية السابق ديفيد لامي: «المملكة المتحدة لا تزوّد إسرائيل بأسلحة يمكن استخدامها في غزة». فسأله المذيع نيك فيراري إن كان ما تقوله حملة «أوقفوا تجارة السلاح» بشأن استمرار تزويد إسرائيل بمكونات لطائرات إف 35 صحيحًا. أجاب لامي: «هذا غير صحيح.غير صحيح. غير صحيح».

وبوصفي مديرة المناصرة في حملة «أوقفوا تجارة السلاح» أؤكد بكل ثقة أننا لسنا مخطئين. فلامي -وهو محامٍ درس في هارفارد- لم ينسَ الاستثناء غير المسبوق الذي أعلنه بنفسه أمام البرلمان في سبتمبر الماضي، والذي سمح بمواصلة تزويد برنامج الطائرة إف 35 بمكونات بريطانية تُوزَّع عبر شبكة دولية تصل إليها إسرائيل.

صحيح أن بعض تراخيص التصدير جُمّدت، لكن الأكثر فتكًا وقيمة استمر في التدفق. وبررت الحكومة البريطانية ذلك بذرائع فضفاضة تتعلق بـالسلام والأمن الدوليين»، وهو تبرير يبدو موجها أساسا لإرضاء الولايات المتحدة الشريك الرئيسي في برنامج إف 35.

وفي مايو الماضي حضرت أسبوعا كاملا من جلسات المحكمة العليا التي ناقشت فيها الحكومة عبر فريق من المحامين قضية رفعها شركاؤنا من مؤسسة «الحق» الفلسطينية ومن شبكة العمل القانوني العالمية بشأن استمرار تصدير مكونات إف 35. لن أنسى وقار ممثلي «الحق» وهم يشاهدون حياة شعبهم تُناقش كقضية قانونية باردة.

ووفقًا لموقف الحكومة المودَع لدى المحكمة جاء الاستثناء رغم وجود «مخاطر واضحة من أن ترتكب إسرائيل انتهاكات جسيمة للقانون الإنساني الدولي في عملياتها في غزة، بما في ذلك باستخدام طائرات إف 35».

هذه الطائرات التي يُوصف أسطولها بأنه الأشد فتكًا في العالم تحتوي كل واحدة منها على نحو 15% من مكوناتها مصنوعة في بريطانيا. وقد استخدمتها إسرائيل لإلقاء قنابل زنة ألف كيلوغرام على الفلسطينيين النازحين في خيامهم في منطقة المواصي؛ حيث قُتل تسعون شخصًا داخل ما وصف بـ«المنطقة الآمنة». التغاضي عن انتهاكات الجيش الإسرائيلي يبدو سياسة رسمية بريطانية؛ فوزارة الخارجية أقرت بانتهاكات تتعلق بالمساعدات الإنسانية وبمعاملة المعتقلين، لكنها زعمت أنه «لم يتسنّ التوصل إلى حكم حاسم بشأن مزاعم تخص أسلوب إسرائيل في القتال».

وبحلول سبتمبر 2024 كانت الخارجية قد درست 413 حادثة يُحتمل أن تشكل انتهاكات للقانون الدولي، وخلصت في 411 منها (أي 99.5%) إلى أنه «لا تتوفر معلومات كافية للحسم». الحادثة الوحيدة التي عُدّت «مخالفة محتملة» كانت قصف قافلة منظمة «المطبخ المركزي العالمي» في أبريل 2024.

أما فيما يخص تهمة الإبادة فقد اعتبرت الحكومة أنه «لا يوجد خطر جدي بوقوع إبادة جماعية» رغم أن فريقاً حكومياً مشتركاً بين الوزارات أقر في يونيو من العام نفسه بأن «الأفعال الجارية في غزة يمكن أن تُشكل من الناحية المادية عناصر جريمة الإبادة».

غير أن الحكومة اعتبرت أن ما ينقص هو «نية الإبادة» مدعية أن إسرائيل لم تستهدف المدنيين بشكل مباشر. كيف يمكن التوصل إلى مثل هذا الحكم بينما ترفض الحكومة الاعتراف بأي غارة أو قصف استهدف المدنيين أصلًا؟ هذا المنطق عبثي، ويشكّل وصمة في ضمير الإنسانية؛ لأنه يتعمد إنكار تورط بريطانيا في إبادة الفلسطينيين المستمرة.

إن القصف والحصار والتجويع والتدمير ليست نتائج عرضية للحروب، بل أدوات مقصودة، والأسلحة البريطانية شريك فيها. والفلسطينيون الذين يُدفعون إلى مخيمات مكشوفة، ويُقتلون برصاص الجيش الإسرائيلي وهم يحاولون الحصول على الطعام تحت شعار «المساعدات». هذا الكابوس لم يكن ليتحقق لولا الحصانة غير المسبوقة التي منحتها الدول الغربية لإسرائيل والولايات المتحدة.

في يوليو الماضي سُئل لامي صراحة عن التقييمات المتعلقة بقتل الفلسطينيين الجائعين أثناء وقوفهم في طوابير المساعدات. لم يقدم إجابة مباشرة، واكتفى بالقول: إن مزيدًا من «التقييمات» أُجريت. ولم تعلق الخارجية على الأمر عندما تواصلت معها صحيفة ميدل إيست آي. وهكذا يبقى السؤال: هل كل ما فعلته الحكومة هو التذرع بعدم وجود «معلومات كافية»؟ هذا العبث البيروقراطي هو ما يمنح الشرعية لإبادةٍ مُعلنة.

وبعد استفسارات الصحيفة أحالت الخارجية البريطانية الأسئلة إلى وزارة الأعمال والتجارة التي قالت: إنها علّقت بعض التراخيص المتعلقة بمكونات الـ (إف 35 ) المصدّرة مباشرة إلى إسرائيل، لكنها بررت استمرار المشاركة في البرنامج الدولي للطائرة بأن وقفها سيضر بـ«الأمن الدولي» وبدور الناتو وحلفاء بريطانيا.

حين يتعلق الأمر بمبيعات السلاح ينحني القانون أمام الأقوياء. وبريطانيا مع شركائها في برنامج إف 35 من الولايات المتحدة وأستراليا وكندا وإيطاليا وهولندا والنرويج والدنمارك مطالَبون فورًا بوقف تزويد إسرائيل بهذه الطائرات ومكوناتها. وبالنسبة لي -كإيرلندية الأصل- فإن هذه السياسات تُفرغ من مضمونها «الاعتذارات» السابقة التي قدمتها حكومات بريطانيا عن دورها في المجاعة الأيرلندية. فلا معنى للاعتذار عن تجويع أجدادي بينما تُمكّن الحكومة البريطانية اليوم من قصف وتجويع الفلسطينيين.

وباسم نفسي وأسلافي، وكل من عانى المجاعة ويقف معنا اليوم نقول: لن نغفر، ولن ننسى.

كاتي فالون هي مديرة المناصرة في حملة «أوقفوا تجارة السلاح»، وتشرف على عملها البرلماني والقانوني، ومن بينه الدعوة إلى فرض حظر على تصدير السلاح البريطاني إلى إسرائيل.

عن صحيفة ميدل إيست آي