الأمل والخوف باعتبارهما فاعلين سياسيين
08 سبتمبر 2025
08 سبتمبر 2025
انطلقت يوم الخميس الماضي سفن أسطول الصمود العالمي؛ لمساعدة غزة، وفك الحصار عنها، ما دعاني للتفكير مرة أخرى في جدلية الأمل والخوف في صنع الفعل السياسي. وقد وردت هذه الجدلية في كتب السياسة والفلسفة الكلاسيكية؛ فمثلا عند توماس هوبز في الليفياثان يطرح مثالاً فيقول: «حين يقوم (أي الإنسان) برحلة فإنه يتسلح ويبحث عن الصحبة الجيدة، وحين يخلد إلى النوم فإنه يقفل أبوابه. وحتى عندما يكون في بيته فإنه يغلق خزائنه، وهذا مع معرفته أن هناك قانونًا وموظفين عامّين مسلحين؛ لينتقموا لأي أذى قد يلحق به...» (ص135).
ويقول في موضع آخر: «إن الأهواء التي تجعل الإنسان يميل إلى السلام هي الخوف من الموت، والرغبة في الأشياء الضرورية لحياة مريحة، والأمل بأن يحصل عليها بعمله» (ص137). وكذلك يشير باروخ سبينوزا في كتاب علم الأخلاق إلى تعريف الخوف عند تعريف الانفعالات فيقول: «الخوف رغبة في تجنب شر أعظم نخشاه، وذلك بالإقبال على شر أقل» (ص224). وهذه الشواهد تدل على أن مسألة الخوف والأمل يحركان الفعل السياسي، ويُمكن المضي لأكثر من ذلك للقول: إنهما فاعلان سياسيان؛ فكيف تترجم الأمل والخوف إلى أفعال سياسية ملموسة؟
إن الأمل يفتح أفقا لمستقبل مختلف من خلال تصور وضع أفضل يراد تحقيقه سواء داخل إطار جغرافي معين، أي في داخل الدولة، أو في العالم؛ ولذلك فإنه بطريقة ما يمنح شرعية للمخاطرة بالفعل السياسي حتى مع غياب منطق موازين القوى، فهو يحرك الوجدان البشري، ليس الفردي فحسب، بل الجمعي كذلك نحو تحقيق مستقبل أفضل، فيدفع بالجماهير والشعوب عمومًا للتغيير السياسي من خلال الحركات والتضامن مع القضايا. والناظر للأمل يجد أنه طموح لإحداث تغيير معين حتى مع عدم وجود تصور كامل عن هذا التغيير، إلا أنه يفترض به أن يكون أفضل من الوضع الكائن، وهكذا تتحرك الثورات الشعبية مثلا لإحداث هذا التغيير؛ أملاً في الوصول إلى وضع إيجابي، وهذا يفسر السعي الفلسطيني المستمر في المقاومة؛ إذ الأمل في العدالة، والتحرير، وتراجع موازين القوى لصالح قضية عادلة تبقي المقاومة في حالة من الصراع المستمر الذي قد يكون -في حسابات من يدعي الواقعية السياسية- غير منطقي.
أما الخوف فهو عامل سياسي مزدوج قد تستخدمه السلطات أحيانًا من أجل ضبط الشعوب؛ خوفًا على ذاتها، وهذا يفسر الحالة المضطربة في كثير من الأحيان في التعامل مع الحراك نحو تغيير ما. فالسلطة السياسية أيا كان شكلها تخشى بشكل مستمر من الوقوع ضحية المطالبات في التغيير، ولا ينطبق هذا على الحكومات السلطوية فحسب، بل حتى الحكومات الديمقراطية؛ ولذلك تسعى الأحزاب فيها لأن تبقى في الحكم لأطول فترة ممكنة. وفي الجانب المقابل؛ فإن الخوف يدفع الجماهير للفعل السياسي كذلك خشية ألا تستطيع تغيير الوضع القائم، أو تغييره للأسوأ، وبالتالي فإنها تتحرك اتجاه معارضة أو تأييد بعض السياسات، فضلا عن المقاومة الناعمة التي لا تتبنى العنف. ومن الأمثلة عليها في فلسطين المقاومة بنقل السردية الفلسطينية سردية صاحب الأرض، والحكايات والأشعار والذاكرة من جيل إلى جيل، خوفًا من التصفية النهائية، ومحاولة التأكيد المستمر على أحقية صاحب الأرض بأرضه، وكذلك يدفع حركات المقاومة للقيام بالعمليات العسكرية؛ خشية أن تتأخر فيسبقها العدو بخطوات. فإن كان هذا العدو لديه قدرات عسكرية أكبر فإن المقاومة لديها قضية لا تود أن تنتهي، وذاكرة لا تود أن تمحى، وهكذا تقوم بالفعل لا بناء على الحسابات الرياضية، بل بناء على الإيمان بعدالة الفكرة وصحتها.
لا تتحرك السياسة بالأمل وحده، أو الخوف وحده، بل تتحرك بتفاعل الاثنين مع بعضهما البعض. وعلى الرغم من التناقض اللفظي بين الأمل والخوف، إلا أنهما يشكّلان حافزًا متكاملًا في الوجدان البشري، وعليه فإنهما يحركان الجموع في ذات الوقت: الأمل في التغيير، والخوف من عدم التغيير هذا؛ ففي المحصلة تجد أن الأمل يمنح الغاية ويشرّعها، والخوف يعجل بالفعل لتحقيق هذه الغاية، ووجود الاثنين وتكاملهما يجعل المرء في حالة من اليقظة المستمرة؛ للتطوير وتحقيق أفضل ما يمكنه. وهكذا تجد أن حركات التحرر الشعبي، والتضامن العابر للحدود مثلا تتخذ من الأمل والخوف حافزًا للقيام بالأفعال السياسية؛ فهما ليسا بمعزل عن السياسة، بل في صلبها، ويحركانها كما تحرك العجلة العربة.
بالعودة إلى أسطول الصمود العالمي لمساعدة غزة نجد أنه كذلك تحرك بالأمل والخوف؛ الأمل في كسر الحصار عن غزة، وخلق رمزية عالمية، وحشد الرأي العام الدولي، وبشكل أو بآخر استطاع الأسطول أن يلفت الانتباه إليه؛ من أجل الانتباه في المقام الأول لغزة، والخوف من استمرار الإبادة والحصار، واستمرار موت الأطفال وتجويعهم، ومن هيمنة السردية الإسرائيلية على أذهان الشعوب العالمية. واستطاع الأسطول أن يحشد الأذهان بالأمل في إمكانية تحقيق غايته، والخوف من الركون إلى الراحة؛ ولذلك تجد المشاركين فيه قد تنوعوا من مشارق الأرض ومغاربها، منهم مشاركون من أربع دول خليجية. كلهم اتجهوا حاملين آمالهم وأحلامهم أن يكسر الحصار عن غزة، وأن تتحرر فلسطين بزوال دولة الاحتلال، وبالإقبال على شر أقل لتجنب شر أعظم بتعبير سبينوزا. إن التفاعل الوجداني الذي يوجده الأمل والخوف يحول مبادرة إنسانية تنبع من الالتزام بالواجب نحو قضية عادلة لفعل سياسي عالمي يحول الأنظار والكاميرات نحو السفن التي تنطلق لغزة.
أقول: إن بقاء الأمل والخوف في الوجدان مهم لبقاء الذهن مشحونًا بالواجب نحو القضايا الإنسانية، ومحاولة التغيير السياسي الإيجابي. وفقدانهما، أو فقدان واحد منهما يدفع بالإنسان للرضوخ والركون دون أي محاولة للتغيير على اعتبار أن الوضع القائم مفروض، ولا بد له أن يبقى هكذا دون محاولة تغييره أو على الأقل إصلاحه بما يتناسب مع المصلحة العامة، وفي المحصلة؛ العيش كما يرغب الآخرون بتعريفهم لـ«ما ينبغي» أن يكون عليه الوضع. فالإبقاء على الشعورين حيين يتحركان ويتفاعلان في الوجدان دافع للحلم، والحلم دافع للفعل، والفعل دافع للتغيير الإيجابي في النتيجة النهائية.
جاسم بني عرابة من كتاب الرأي في جريدة عمان
