ثقافة

منشية يافا العابرة للأزمنة والأمكنة.. كان ويكون وسوف يكون

04 سبتمبر 2025
04 سبتمبر 2025

استعاد العرض فأرانا منشية يافا المستلبة والمبادة في معظمها، التي تذكرنا بـ "منشيات" أخرى ما زالت قائمة في الشرق العربي: بلاد الشام ومصر؛ فثمة تشابه كبير في طقوس صباحات "المنشيات": الذهاب للعمل، بائع الفول المتجول، موزع الصحف، وأحاديث الجارات، وفي ظل الاستعادة لما كان قبل 77 عامًا، فقد وضعنا في عين ما يكون الآن في "منشيات غزة"، فكأنه في الوقت الذي يروي عن المأساة التي كانت هنا، فإنه يرينا مأساة الآن، بل لعل ما يكون في غزة قد ذكره بما كان، فكانت الاستعادة سرد السطو على حياة الشعب الفلسطيني وتهجيره.

ثمة سؤال في بال الكاتب والمخرج، وهو سؤال داخل الفلسطينيين واللاجئين وغيرهم من البشر: هل فعلاً انتهت المنشية ولن تعود صباحاتها ومساءتها؟ كل تلك الحياة انتهت!؟ وكيف تمت جريمة التهجير. لكن سيخف ربما التساؤل حين نرى هدم البيوت على أصحابها في غزة، وأن هناك أحياء سويت بالأرض، على سمع العالم وبصره.

أمس والآن، وغدًا الذي يستشرف فيه أمل حدوث تحولات، تتحدث عن تغير الزمان، حيث يدور نقاش مستقبلي بين "المنشيين" حول قبول اللاجئين الأمريكيين.

لعلنا نكون قد اقتربنا من تأويل الرؤية الإخراجية إذن استجابة لعرض سيرة المنشية على مدار ربع قرن، يافا العشرينيات وصولًا إلى تهجيرها بالقوة 23 نيسان عام 1948، ثم تتبع لأماكن اللجوء، بالاستعانة بـ راو يقدم للمشاهد أو يعلق عليها، أو يستنتج، أو يلجأ إلى الإيحاء. لقد عرضت مسرحية "المنشية" للجانب الاجتماعي في ظل التحولات التي حدثت بعد سقوط يافا في سياق هزيمة الدولة العثمانية، التي كانت فلسطين جزءًا منها، حيث أبرزت التفاعل الاجتماعي والوطني السياسي، وصولًا لاستقواء العصابات الصهيونية على المكان والتاريخ، ليعيد لاجئو المنشية تموضعهم في أماكن اللجوء، في ظل شكهم بأن ذلك قد حدث فعلاً؛ فلم يتصور الحاج أبو صبحي أنه لن يعود إلى بيته في المنشية، فحمل مفتاحه معه على أمله القوي بالرجوع إلى البيت بعد 3 أسابيع ليس أكثر، لكن مرور الأسابيع والسنوات بعث على وجود حالة من السخرية، ظهرت من خلال لقاء ثانية وهم يتذكرون تلك الأيام بحنين وسخرية، أما الحنين فهو حنين يصعب وصفه، فهو ليس حنينًا عاديًا لزمان لا يعود، ولكن حنين لمكان ليس مضمونًا لمن هجّر منه أن يعود.

المنشية كانت حيًا سكنيًا في يافا، فلسطين. بني الحي في آخر سنوات السبعينات من القرن التاسع عشر، على شاطئ البحر على يد بعض العائلات التي هاجرت إلى يافا في الثلاثينيات. وأصبح أحد أكبر الأحياء في يافا. احتل الحي في نيسان وأيار من عام 1948، على يد عصابات الإيتسل الصهيونية. وذلك جاء بعد قيامها بمذبحة دير ياسين واحتلال القرية، كان الهدف من احتلال الحي هو إخماد الثورة وتسهيل الطريق أمام العصابات الصهيونية لتتمكن من احتلال باقي أحياء المدينة. وهكذا فقد كان جزءًا مهمًا من النص بحثًا للكاتب والمخرج الأول د. سامر الصابر، والذي لم تغب حياة أهله عن النص. (ثمة مخرجة ثانية للنص هي الفنانة الأمريكية مارينا جونسون).

أما كلمة "المنشية" فلها معنيان رئيسيان: الأول، يشير إلى حي أو قرية أُنشئت حديثًا، غالبًا ما تكون بالقرب من مدينة أو قرية قائمة بالفعل. والثاني، يشير إلى سوق أو مركز تجاري، خاصة في بعض المناطق العربية مثل مكة.

مريم، الأم التقليدية وسنية ابنتها التي تحب أحمد، بائع الصحف والشعر، وعايشة الأرملة التي سبق لها الزواج مرتين، عاشقة أحد الوطنيين، التي تتمنى الارتباط به. في حين بالمقابل هناك مصطفى أبو صبحي، وزهران بائع الفول وأحمد بائع الصحف، وأبو شمسية الشخصية الكاريكاتورية بعبارته: "طارت..طارت".

كان ذلك الفصل الأول، حيث كانت "المنشية" كما هي، وإن بدا فيه بدايات الاحتلال البريطاني أخطار الهجرة الصهيونية، والتي ظهرت من خلال الأحاديث اليومية والصحف. بدت المشاهد حيوية من حيث ما يحياه الناس بشكل عادي، حيث تكرار طقوس الصباح، خاصة خروج الرجل - الزوج خارج البيت، والطفل إلى المدرسة، وتوزيع الصحف وبيع الفول، بجو من الألفة والسلام بين الجيران. وعكست المشاهد بالطبع حياة يافا التقليدية من حيث تقسيم العمل والعلاقات بين الرجال والنساء.

خارج هذه الحياة الطبيعية في ظل الحدق المحدق، نتابع الفصل الثاني وهو الفصل الذي حمل شحنات عالية من التوتر، في ظل الخطر الفعلي في زحف الغزاة تجاه الحيّ، وأثر ذلك على منظومة حياة "المنشية"، وصولًا لتهجيرهم بقوة البارود، وقد أدى الفنانون جميعًا أدوارًا معبرة عن هذا التوتر. خفف من التوتر قراءة شعر إبراهيم طوقان من خلال سنية، من خلال مراجعة الدرس أو الصحيفة.

لقد كرر الراوي عبارته المهمة في العرض: "في أشياء بتنحكى وأشياء ما بتنحكى"، في إشارة إيحائية لا لنقد ردود الفعل العربية قبل 77 عامًا، بل لما كان خلالها وصولًا إلى الآن.

ثم لتتلو ذلك مشاهد اللجوء، وانتهاء بالتخيل لما يمكن أن يكون من تحرر، لدرجة نقاش المنشية مسألة قبول لاجئين أمريكيين في ظل تقنيات إلكترونية رقمية متطورة.

إذن لغة الإخراج كانت تمثيلًا لما كان، وسردًا إضافيًا من راو آخر، وخيالًا لما سوف يكون من تغيرات لحياة اللاجئين الفلسطينيين، أكان ذلك حقيقة أم افتراضًا، حيث استخدم تكنولوجيا العصر الرقمية.

لقد انسجمت الرؤية الإخراجية إذن مع المضمون أكان ذلك اللجوء للرواية أو التمثيل، أو السفر إلى الزمن. في هذا الوقت حضرت غزة واضحة أو بالرمز. لذلك لا تقف "المنشية" عند ماضيها، بل عند حاضرنا الآن.

لقد كان السرد أحد عناصر الإخراج من خلال راو محترف هو الفنان حسام أبو عيشة، ما أضفى حيوية على العرض، كأن الراوي أحد روافع العرض.

لقد لجأ المخرج للخطابية هنا وهناك، ربما لأنه رأى أن هذه المأساة السابقة والحالية تحتاج لبوح ما وتعبير ما، وبالرغم أن ذلك محتمل، لكن العرض لم يكن بحاجة لأي خطاب، ولو كان مونولوجًا انفعاليًا فيه الأمل وفيه الإصرار على العودة لكان أكثر تأثيرًا.

أما إعادة المقدمة في ختام المسرحية، لسبب فني وإنساني، أما فنيًا فلكي تقدم فكرة استعادة الماضي، أما إنسانيًا فلكي تؤكد على الحضور الذي ما زال ممكن الحدوث والتكرار. هي دائرية أدبية وفنية.

إخراج مثل هذا العرض لم يكن سهلاً، وربما كان بحاجة لوقت كافٍ، فلو توفر ذلك لكان العرض أكثر متانة. كذلك، بالرغم من التحولات الشكلية في المسرح المعاصر، والتعامل مع الديكور والسينوغرافيا، فقد كنا (كنت) بحاجة لموجودات مادية تضعنا في أجواء المضمون والأحداث؛ فالعوامل البصرية تحفّز على المشاهدة، فلا يكفي الإيحاء بوجود ديكورات البيت (المطبخ) من خلال الإيماء.

وهكذا تحولت "طارت" الأولى التي يقولها "أبو شمسية" والتي كانت تثير الضحك، إلى "طارت" مأساوية، حين صارت تعني التهجير من فلسطين، ما يعني أن طارت الأولى كانت تنبؤًا بما سوف يكون، في ظل ما كان يشير فيه واقع فلسطين إلى الاحتلال القادم.

لقد أضافت فانتازيا التخيل الأمل والتفاؤل، ولعل ذلك له دور في تقوية الباقين على الأرض، واللاجئين منها، بسبب إيمان الكاتب والمخرج (والإنسان الفلسطيني) بأنه ذلك لن يدوم، ولهذا السبب تكون الفنون والآداب مفاتيح أمل وعمل.

كان أداء الممثلين من روافع العرض، بدءًا بالراوي حسام أبو عيشة، والفنانات شادن سليم، وياسمين شلالدة، وفاطمة أبو علول، اللواتي كان لكل واحدة تعبيرها الخاص عن الدور النسويّ الغني في العرض، كذلك الفنانين فراس فرح ومحمد الباشا اللذان تحركا برشاقة على الخشبة، وعزت النتشة الذي أبدع في تنقله السريع بين تمثيل 3 شخصيات أو أكثر في العرض، معطياً لكل واحدة حقها وسيكولوجيتها.

صاحب العرض فريق العمل التقني المكوَّن من: رمزي الشيخ قاسم (تقنيات)، روان أبو غوش (ملابس)، عدي الجعبة (تصميم صوت)، ونديم سمارة (تشغيل الصوت). Ytahseen2001@yahoo.com