غزة بلا مقابر .. جثامين الشهداء على الأرض وكرامة الموتى تُدفن قبل أجسادهم
بين أزقة خان يونس المزدحمة بخيام النزوح والبيوت المدمرة، كان الشاب محمود الكحلوت يتنقل من مقبرة إلى أخرى، يحمل في قلبه همًا أثقل من أن يُحتمل. لم يكن يبحث عن مكان ليرتاح فيه حيًّا، بل عن قبر يضم جثمان خالته وابنها الصغير اللذين استُشهدا في قصف دموي قبل أيام. كانت ملامحه شاحبة، وصوته مبحوحًا من كثرة السؤال بلا جدوى: «أين يمكن أن ندفن أحبتنا؟».
رحلة البحث عن قبر
خالته التي قضت في حضن ابنها تحت أنقاض منزلها، لم يُنتشل جسدها إلا بعد يوم ونصف من القصف. قوات الاحتلال لم تكتفِ باستهداف البيت، بل أطلقت النار على سيارات الإسعاف وطواقم الإنقاذ التي حاولت الاقتراب. لم تمت وحدها، بل حملت ابنها إلى مثواه الأخير وهما يلفظان أنفاسهما معًا.
بعد جهود شاقة، أُخرجت جثتاهما من تحت الركام، لتبدأ رحلة جديدة من العذاب: البحث عن قبر. جال محمود على المقابر الشرقية قرب مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، لكنه وجدها ممتلئة عن آخرها، حتى الأراضي الفضاء تحولت إلى مخيمات نزوح. وأمام هذا الواقع، لم يجد سوى قبر معروض للبيع بثلاثمائة دولار.
يقول بأسى خلال حديثه لـ«عُمان»: «من أين نأتي بهذا المبلغ؟ هل نشتري طحينًا للأحياء أم قبرًا للأموات؟».
اضطر أفراد العائلة إلى جمع ما تيسر من الأموال، دفعوا المبلغ الباهظ، ولم يدفنوا خالته وابنها إلا بعد ثلاثة أيام كاملة من استشهادهما. يصف محمود التجربة بأنها «جرح لا يندمل»، موضحًا: «حتى الموت لم يعد له حرمة، وصار القبر نفسه سلعة تُباع وتُشترى وسط مجاعة خانقة».
أزمة المقابر
قصة محمود ليست إلا وجهًا من وجوه مأساة أوسع تضرب القطاع منذ 23 شهرًا من العدوان الإسرائيلي المتواصل. فالمقابر في غزة لم تعد تتسع لأعداد الشهداء الذين يسقطون يوميًا بفعل القصف، أو يموتون جوعًا، أو برصاص الاحتلال أمام مراكز توزيع المساعدات. كل ذلك حوّل المقابر إلى ساحات مكتظة، وأجبر الناس على دفن أحبتهم في الشوارع والجزر الرملية وساحات المستشفيات ومدارس الإيواء.
وزارة الصحة في غزة أعلنت أن حصيلة الشهداء منذ بدء العدوان في السابع من أكتوبر 2023 وحتى 3 سبتمبر 2025 ارتفعت إلى63 ألفًا و746 شهيدًا وأكثر من 161 ألفًا و245 مصابًا. وحده يوم 3 سبتمبر الجاري شهد وصول 113 شهيدًا و304 مصابين إلى المستشفيات. ومنذ استئناف العدوان في مارس 2025 ارتقى أكثر من 11 ألفًا و600 شهيد.
المجازر لم تتوقف عند القصف، بل امتدت إلى من ينتظرون المساعدات. الإحصاءات تشير إلى سقوط 2339 شهيدًا وأكثر من 17 ألف مصاب وهم يبحثون عن لقمة عيش. وفي الساعات الأخيرة فقط، وصل إلى المستشفيات 33 شهيدًا و141 مصابًا من هذه الفئة وحدها.
وإلى جانب القصف واستهداف منتظري المساعدات، تحصد المجاعة أرواح المدنيين. فقد سُجلت حتى الآن 367 وفاة جراء سوء التغذية، بينهم 131 طفلًا. وهكذا تتراكم المآسي فوق المآسي، لتجعل العثور على قبر حلمًا صعب المنال.
شهيد الطحين بلا قبر
في المقبرة التركية، غرب خان يونس، جلست منى الأشقر تبكي بحرقة قرب جثة أخيها الشهيد «مصطفى». استُشهد «سند العائلة» أمام مركز لتوزيع المساعدات في منطقة زيكيم، شمال قطاع غزة، بينما كان يحاول الحصول على كيس طحين.
تقول: «أخي مات من أجل كيس طحين، صارت حياتنا كلها بحثًا عن رغيف خبز، حتى الموت صار جوعًا».
حين التقيناها لم تكن منى قد عثرت على قبر لدفنه، توضح: «جميع المقابر في شرق وشمال غزة خاضعة لسيطرة الاحتلال، الذي يمنع الدفن فيها ويقوم أحيانًا بنبش القبور بحثًا عن جثث أسراه. ومع تكدس الجثامين، اضطر الناس لدفن أحبائهم في الشوارع وبين المباني». تضيف بصوت يختنق بالدموع: «أصبحنا نضع جثث أهلنا في الجزر الرملية بين الطرقات، كأنهم بلا قيمة».
وتؤكد أن الأحاديث عن انتهاء المجاعة ليست سوى أكاذيب، فالاحتلال سمح بدخول بعض شاحنات السكر والمعلبات، لكن المواد الأساسية شحيحة جدًا. «حتى اليوم كيلوجرام الطحين يباع بعشرين شيكلا، والناس لا تستطيع شراءه. الوضع لا يُحتمل». تختم حديثها بصرخة: «نحن نعيش كارثة، نرجو من الله أن يفرجها عنا».
نفاد القبور في المنطقة الإنسانية
وفي قلب الأزمة، خرج إعلان صادم من مغسلة الموتى في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس، يشير بوضوح إلى نفاد القبور، وأن المدينة الجنوبية التي تستقبل آلاف النازحين والشهداء أصبحت عاجزة تمامًا عن استيعاب مزيد من الجثامين. الأطباء والعاملون في المستشفى وصفوا المشهد بأنه «مقلق للأحياء قبل الأموات».
ويأتي ذلك بالتزامن مع تصاعد المجازر اليومية في القطاع. الاحتلال يقصف حتى المناطق التي وصفها بالأمنة، مثل المواصي، ويستهدف مراكز توزيع المساعدات بشكل متكرر، ما يسفر عن سقوط عشرات الشهداء في كل مرة. مغسلة مستشفى ناصر، التي اعتادت استقبال بضع جثامين يوميًا، باتت اليوم تستقبل مئات، حتى أن الممرات الداخلية تحولت إلى أماكن مؤقتة لوضع الشهداء.
يروي متعهد دفن الموتى، أبو رامي الجبور ملامح المأساة من داخل «المقبرة التركية». المقبرة التي لم تكن تتسع قبل الحرب لأكثر من ستين قبرًا، تضم اليوم آلاف الجثامين.
يقول أبو رامي خلال حديثه لـ«عُمان»: «نحفر القبر لشهيد، ثم نضطر أن نضع معه آخرين فوقه. القبور تكسرت ولم تعد صالحة، ومع ذلك لا نملك بديلًا».
الحصار فاقم من المشكلة. فحتى مواد البناء التي تُستخدم لتشييد القبور نفدت تمامًا. الطوب والبلوكات الخرسانية التي كانت تُصنع من بقايا المنازل المهدومة لم تعد متوفرة. «أصبحنا ندفن الشهداء دون تجهيز لائق، أحيانًا لا نجد حتى كفنًا كافيًا لهم»، يضيف بحزن.
يشير أبو رامي إلى أن الأزمة شملت جميع مقابر غزة، شمالًا وجنوبًا. الكثير منها بات تحت سيطرة الاحتلال الذي يمنع الناس من الوصول إليها. يوضح: «الموتى صاروا بلا مأوى، كما الأحياء بلا بيت». ويؤكد أن كل يوم يمر يزيد الطين بلة، إذ يسقط المزيد من الشهداء ولا يُتاح لهم مكان يليق بكرامتهم.
رغم كل المعاناة، يواصل أبو رامي عمله مع فريق صغير من الشبان، يدفنون الشهداء تحت القصف والحصار. يصف مهمتهم بأنها «واجب إنساني»، لكنه لا يخفي قهره: «لا نريد شيئًا سوى أن يُدفن شهداؤنا بسلام، لكن الاحتلال سرق منا حتى حقهم الأخير».
