في العام الدراسي الجديد

30 أغسطس 2025
30 أغسطس 2025

مع بداية العام الدراسي الجديد حيث يبدأ اليوم الآلاف من الطلاب والطالبات عاما دراسيا يتطلعون فيه إلى اكتساب الكثير من المهارات التي تؤهلهم للمستقبل، ويأملون أن تكون المدرسة بيئة تعلُّم جاذبة، وبوابة معرفية تقودهم إلى عالم يعج بالمتغيرات والتطورات الهائلة؛ ليكونوا أكثر قدرة على فهم تلك المتغيرات، وكيفية التفاعل مع سرعة التطورات بشكل إيجابي، بما يعزِّز إمكاناتهم ومواهبهم وقدراتهم. 

فالعالم اليوم ينظر إلى التعليم باعتباره الأساس الذي تتشكَّل به الاتجاهات المستقبلية للمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، خاصة في ظل ما تعانيه الدول من توترات جيوسياسية وحروب اقتصادية وتقنية، الأمر الذي جعل الاهتمام بالتعليم من الأولويات التي تضمن أجيالا قادرة على التمسك بالمبادئ والأسس المجتمعية والأخلاق من ناحية، ومتمكنة من المضي قدما في تطوير مجتمعها وتنميته في جميع القطاعات من ناحية أخرى. غير أن ذلك لن يتحقَّق سوى بتأسيس نظام تعليمي مرن ومتكيِّف مع تلك المتغيرات والتطورات بما يتناسب مع المنظومة الاجتماعية والثقافية للدولة، ويضمن الاستفادة من تلك التطورات. 

إن مستقبل التنمية يعتمد على المنظومة التعليمية، وقدرتها على مواكبة أدوات التفكير والرصد والتقصي الجديدة، بل أنماط الإبداع والابتكار التي تتطوُّر بشكل متسارع، وتقدِّم أفقا حديثة للمتغيرات التي ستشكِّل أساس البناء والتطوير المجتمعي. ولهذا فإن تحديث هذه المنظومة يقوم على مبادئ المرونة، والتكيُّف، والنهج الاستباقي الذي يهيء الطلاب في مراحل التعليم المختلفة بالمهارات والقدرات اللازمة التي تتناسب مع اتجاهات المستقبل ورؤاه؛ بحيث يكونون أكثر قدرة على تقبل تلك المتغيرات، وأقدر على التعامل معها بمرونة دونما التأثير على المبادئ والركائز الأساسية للمجتمع. 

يقدِّم لنا تقرير (الاتجاهات التي تشكِّل التعليم للعام 2025) الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) مجموعة من التحديات والمتغيرات التي تؤثر على منظومة التعليم وتوجِّه مساراته؛ حيث تمثِّل التحديات السياسية والاقتصادية والتقنية أهم تلك المتغيرات التي تنعكس آثارها على التعليم، وبالتالي فإن مستقبل تلك التفاعلات، وطرائق تطورها، وأنماط تشكُّلها في المجتمع تؤثر على المنظومة التعليمية من خلال قدرتها على إعادة تشكيل سياساتها وأنظمتها بما يضمن ديناميتها وقدرتها على تهيئة المتعلمين، وتوفير أنماط تعليمية تتناسب مع ما ينتظرهم خارج هذه المنظومة. 

إضافة إلى ذلك فإن التقدم التقني خاصة التطورات المتعلقة بأنظمة الذكاء الاصطناعي جعلت الحياة اليومية في تطوُّر مستمر، الأمر الذي يقدِّم للمنظومة التعليمية إلزاما بأهمية إدخال هذه التقنيات في العملية التعليمية ليس على مستوى طرائق التدريس والمناهج وحسب، بل أيضا في قدرة المتعلمين على التعامل مع هذه البرامج والأنظمة وإمكانات الاستفادة منها في الإبداع والابتكار، وأنماط التفكير وحل المشكلات وغير ذلك؛ فهذه البرامج تشكِّل نمطا مغايرا يحتاج إلى الممارسة والتمرين. 

إن التطورات التقنية التي يشهدها العالم حوّلت أنماط عملنا وطرائق تعلمنا، بل حتى تواصلنا الاجتماعي؛ وبالتالي فإن إمكانات الاستفادة منها ترتبط بقدرتنا على التعامل معها باعتبارها وسائل داعمة ونافعة، وقادرة على مساعدتنا. ولهذا فإن تعليم أبنائنا على كيفية التعامل الأفضل مع هذه البرامج والتقنيات والتطبيقات هو الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من العمل معها وفق رؤية تربوية مدروسة ومنهجية واضحة؛ لذا فإن المنظومة التعليمية عموما والمدرسة بشكل خاص هي البيئة الداعمة والموجهة لذلك. 

والحق أن المنظومة التعليمية قد اعتنت بهذا التوجه ضمن مجموعة من البرامج والأنشطة وأصدرت العديد من الأدلة التعريفية الخاصة بتنظيم العلاقة بين المتعلمين وبرامج الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى تلك المساحات الواسعة للإبداع والابتكار التي نشهدها في المهرجانات والمعارض المختلفة والتي تبرز الاهتمام المتزايد بدعم المواهب الطلابية، وتعزيزها بالتقنيات الحديثة. إلاَّ أن هناك حاجة ماسة إلى تكريس هذه الجهود ودعمها ببرامج الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة؛ حتى يستطيع المتعلمون في كافة محافظات عُمان من الوصول إليها بسهولة ويسر. 

ولعل تطوير مسار التعليم المهني وما يشهده من تحديث خاصة على مستوى إدراج بعض التخصصات المهمة في سوق العمل في المحافظات كالسياحة والضيافة والاقتصاد وغيرها، وربط هذا المسار بالتقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي أمر في غاية الأهمية؛ ذلك لأن هذا النمط التعليمي يرتبط بالمتغيرات التي يشهدها سوق العمل من حيث تهيئة مهارات المتعلمين ورفع كفاءتهم بما يتناسب مع تطلعات مستقبل ذلك السوق وقدرته على التطوُّر. ولأنه سوق متحوِّل بناء على التحوُّلات التقنية وتطورات تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الاتصالات؛ فإنه يرتبط بالتفكير الرقمي، والإدراك التقني، ونشر المعرفة والتواصل بأشكاله التقنية المختلفة. كما أن مستقبل الصناعات يقوم على الرقمنة والتقنيات الحديثة التي تحتاج إلى قوى عاملة ماهرة في هذا المجال قادرة على مواكبة تلك التحولات المتسارعة، بل مساهمة في تطويرها وإنتاجها. 

لذا فإن ارتباط مسار التعليم المهني ومسارات التعلم المستمر بالتقنيات الحديثة يدفع المنظومة التعليمية إلى تطوير أنظمتها وسياساتها ومجالات تخصصاتها ودعمها بالتقنيات الحديثة، وتطوير الكفاءات التعليمية التقنية والمهنية، وتحديث الرؤى والقيم المعرفية والمهارات اللازمة لمواكبة العصر التقني، ودعم توجهات التحوُّل الرقمي بما يضمن تقديم تعليم يتناسب مع متطلبات المرحلة التنموية، والأهداف المستقبلية. فالتعليم المهني بشكل خاص يحتاج إلى تلك الرؤى التقنية الحديثة التي تدفع المتعلمين نحو التعلُّم المستمر القادر على مواكبة التطورات المهنية في الصناعات المختلفة التي أصبحت تعتمد على أنظمة الأتمتة. 

إننا إذ نستقبل عاما دراسيا جديدا؛ فإننا نتطلَّع إلى مزيد من التطوير في المنظومة التعليمية خاصة فيما يتعلَّق بالتقنية والذكاء الاصطناعي؛ فالمتعلمون في أمسِّ الحاجة إلى امتلاك مهارات التواصل والقدرة على التفاعل الإيجابي بواسطة تلك التقنيات ومن خلالها، إضافة إلى أهمية امتلاك مهارات تقنية وطرائق الاستفادة من التطبيقات الذكية بما يخدمهم في حياتهم اليومية وفي دراستهم وإثراء معارفهم، وكذلك في إمكانات دعم مواهبهم وإبداعاتهم. 

وحتى لا تكون للتقنيات والتطبيقات والبرامج آثار سلبية على الأطفال والشباب في المجتمع؛ فلابد أن تكون البيئة المدرسية قريبة من الواقع قريبة من حياة المتعلمين موجِّهة لهم ومرشدة وقادرة على الاحتواء الإيجابي المبدع الذي يجعل من التحدي فرصة للإبداع والابتكار، فالأساس في التعليم أن يحاكي الواقع، ويهيئ للمستقبل، ويدعم التطلعات والأهداف الوطنية، من خلال المتعلمين أنفسهم. 

إن المنظومة التعليمية وفَّرت الكثير من التقنيات في العديد من المدارس وما زالت تقدِّم، لكننا نطمح دوما أن تكون مدارس عُمان جميعها مؤهلة تقنيا، وتوفَّر فرصا متساوية لأبنائنا أينما كانوا للتعليم الحديث القائم على التقنية والرقمنة، فهم جميعا أمل المستقبل، وبهم تتحقق الأهداف والرؤى. 

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة