ثقافة

تأملات "محفوظية" حول النبي الكريم

30 أغسطس 2025
مرفأ قراءة...
30 أغسطس 2025

(1)

أيام قليلة ونحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف؛ ذكرى مولد أشرف الخلق وصاحب الرسالة الخاتمة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى عادتي التي ألزمها منذ سنوات طويلة، أحب أن أتجول بين صفحات السيرة والكتب والمقالات والدراسات التي عرضت لحياة محمد صلى الله عليه وسلم أو لجانب من سيرته أو أعادت قراءة شيء من مكانته وقيمته في التاريخ والإنسانية من منظور جديد ومعاصر.

وفي كل عام أحب أن أوسع الدائرة شيئا فشيئا، وألا أكتفي بما هو معروف من أشهر الكتب أو المؤلفات التي كتبها القدماء والمحدثون على السواء؛ إنما أحب أن أفتش أيضًا في أوراق الأدباء ومذكراتهم وخواطرهم، وأقتنص بعضًا مما سطروه من آراء وتصورات و"لمع" بلغة أجدادنا التراثيين؛ في هذا الموضوع أو ذاك..

وقد اكتشفت، مع توالي الأيام ومر السنين، أن هناك كنوزًا "نصوصا" بالمعنى الحرفي لم تقرأ بعين العناية الواجبة، ولم تستلهم كأفكار موحية لكتابات جديدة ورؤى جديدة خاصة في معالجات كبار كتابنا وأدبائنا ونهضويينا لسيرة الرسول الكريم وشخص محمد (صلى الله عليه وسلم)..

ولعل من بين أهم هذه القراءات ما عثرت عليه من آراء وقراءات لأديب نوبل الكبير نجيب محفوظ (تحل ذكرى رحيله التاسعة عشرة اليوم) يعبر فيها عن رؤية عظيمة للنبي الكريم، ويتأمل مغزى أن يكون الرسولَ الخاتمَ، ويرى أن من أعظم ما علمنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) -فيما علمنا- ألا ننهزم أمام اليأس، وأن الليل مهما طال فله نهاية، وأن الشمس ستشرق غدا لا محالة.

(2)

وقد اكتشفت أن نجيب محفوظ بدوره كان يحب أن يقرأ تأملات بعض المفكرين في ماهية النبوة والرسالة، ومغزى أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل.. ففي حولياته الرائعة التي نشرتها الدار المصرية اللبنانية، قبل سنوات في طبعة جديدة منقحة، وفي الجزء الأول المعنون (عن الدين والفلسفة والثقافة)، يقول نجيب محفوظ نقلًا عن المفكر الباكستاني الشهير محمد إقبال، متأملًا معنى ومغزى أن يكون محمدا صلى الله عليه وسلم "خاتم الأنبياء والمرسلين":

«إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدًا إلى الأبد على مقود يُقاد منه، وإن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو»، ويعقب محفوظ على الأسطر السابقة قائلًا:

«ومعنى هذا أن على الإنسان ألا ينتظر وحيا جديدا، وألا يعتمد على وسيلة من وسائل المعرفة التي تشابه الوحي، في تلقائيتها وشمولها، وأن يحدد لوجدانه وغرائزه وظيفة غير وظائف المعرفة، وأن يجعل من العقل وحده الوسيلة الإنسانية الحقة للمعرفة...

ويبقى للدين دوره الخطير في الوجود، لا بكبت العقل أو تحديد مجاله، أو التدخل في تطلعاته، ولكن بضمان استغلاله لخير الإنسان والوجود، وصده عن مغريات التدمير والهلاك، ونشره الحب لواء يستظل به المفكرون، ويتقون به نداءات الأنانية والكبرياء والعبث واليأس. بذلك يتقدس العقل، ويحقق غزواته، في رحاب الكون وحقيقته العليا، ويصبح تكريس الحياة له عقلانية وعبادة في آنٍ» (ج1، ص 43).

وأتصور أن هذا الاستخلاص القيم لمعنى ومغزى النبي الخاتم والرسالة الخاتمة، لم يتأت لأحد ممن عرضوا لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النقاء وهذا الوضوح؛ بل إن نجيب محفوظ يقيم عليه استخلاصا آخر مفاده أن أكرم ما يكرم إنسانيتنا ويشرفها (من وحي السيرة العطرة والفهم العميق للمبادئ والقيم التي بشر بها محمد صلى الله عليه وسلم) أن تُعنى بالعلم والعلماء، وأن نُبوئهم المكانة التي اختارها الله لهم في طليعة المراكز القيادية. هذا ما يقتضيه العصر، وما يأمرنا به الدين على لسان رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم). ويختتم محفوظ "وذلك طبيعي في دين لم يعتمد على المعجزات وحدها، ولكنه قام على التأمل والنظر والتعقل". (ج1، ص 44)

(3)

في مناسبة أخرى، وعندما يسأل أديب نوبل الكبير، في لقاء إذاعي آخر أجرته معه الإذاعية نادية صالح في برنامج (حديث الذكريات)، عمّا الذي كان يتمنى نجيب محفوظ أن يراه في عصره الأول وشبابه الباكر من مظاهر الحياة الحديثة، وكشوفات العلم وابتكاراته، مما رآه وعايشه وهو كهل كبير، أجاب نجيب محفوظ، قائلًا:

"ظهور الراديو كان سحرًا.. فوقت أن ظهر الراديو كان شيئًا مذهلًا.. وكان من آثار ظهوره الحاسمة في عام 1934م أن أخذت مسارح روض الفرج في التلاشي والاندثار تمامًا، حيث قدمت الإذاعة الأوبرا والأوبريتات القديمة فاكتفى الناس بسماعها في الراديو". ومن سماع الراديو إلى ظهور التلفزيون، يرصد نجيب محفوظ الفارق الدقيق في النقلة الحضارية والتقنية التي عاصرها في ذلك الزمن البعيد، ثم يقول محفوظ: "عندما ظهر التلفزيون كان سحرًا ثانيًا.. أنا لا أتصور الدنيا بدونهما الآن، وكنت أتمنى ألا يوجدا فقط أيام شبابي إنما كنت أتمنى أن يظهرا ويوجدا في شباب الإنسانية.. لو أن كل الأسماء التي بهرتنا وغيرت وجه العالم.. تصوروا لو أن كل هذه الأسماء لها أشرطة مسجلة تحفظ كل ما قالوه وكل شاردة وواردة لهم كيف يكون حجم وكم المعرفة المذهلة التي كانت ستصلنا عنهم؟!".

وبخيال الروائي الفذ، المترع بالموهبة، المسكون بالعبقرية، يتساءل محفوظ عن ماذا لو ظهر هذا الجهاز العجيب في أزمنة غابرة من تاريخ الإنسانية؟!

يجيب بنفسه قائلًا: "كنا رأينا رأي العين النبي (صلى الله عليه وسلم)، والصحابة كيف كانوا يصومون ويصلون ويسلكون.. لو كان هذا التسجيل موجودًا لكان أغنانا عن أشياء كثيرة جدًا وعن آراء كان الناس فيها تستنج وتخطئ ولا تكاد تصل إلى يقين أو رأي واحد يتفق عليه الجميع! كنا رأيناهم رأي العين، وسمعنا كلامهم بأصواتهم مباشرة دون وسيط أو ناقل.. تخيلوا لو كان هذا متاحًا؟!

نِعَمُ الحضارة الحديثة نِعَمٌ كبيرة وجليلة جدًا، وسائل المواصلات الحديثة مثلا التي اختزلت المسافات وقربت الدنيا كلها، كان الإنسان قديمًا يسافر من بلد إلى بلد في شهر أو أكثر، أما الآن فالصورة تختلف تمامًا..".

(4)

وأتصور أن ما أوردناه هنا في هذه الحلقة من (مرفأ قراءة) يمثل عينة بسيطة تدعمها عشرات النصوص والفقرات والعبارات الأخرى في متن محفوظ الشارح (أقصد الثروة المهولة التي تركت عنه من مقالات وحوارات وأحاديث إذاعية وصحفية.. وغير ذلك) التي توضح وتبرز إلى أي حد كان نجيب محفوظ يكنّ حبا حقيقيا لشخص الرسول الكريم، ويكن تقديرًا أصيلا لمكانة النبي وعظمته في التاريخ، لا في تاريخ الإسلام وحده، إنما في تاريخ الإنسانية كلها، وكانت قراءة نجيب محفوظ لكتب السيرة والأخبار والوقائع المروية عنه (صلى الله عليه وسلم) تستخلص المبادئ والقيم الروحية الكبرى، فالمرء بخلقه، والإسلام خلق، وقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة..

وكأن نجيب محفوظ يهيب بنا ويدعونا إلى أن "تعالوا نعيد اكتشاف سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام، نفتش عن كنوزه وجواهره.. تعالوا نعرف كيف كان (صلى الله عليه وسلم) يعامل اليهودي والمسيحي، وأن تعالوا ننفض أغلال الوهم والجهل والفهم الحرفي المنغلق لسيرته صلى الله عليه وسلم وأحاديثه.. وتعالوا لا نترك سيرة نبينا حكرا على المتأسلمين المتطرفين، وتفسيراتهم المنغلقة والمتعصبة.. إنها دعوة للانفتاح على النبي وتراث النبي بروح سمحة وعقول ساعية للمعرفة دون حدود..

وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، الداعي إلى سلام البشرية وكمال الدين بتحرير العقل..

* إيهاب الملاح كاتب وناقد مصري.

Image