فلسطين الأمل أم اليأس؟

30 أغسطس 2025
30 أغسطس 2025

حالة بوادر اليأس تجاه حل القضية الفلسطينية ليست جديدة، فحجم المآسي كبير والمعاناة صارخة، وهذا اليأس يمكن رؤيته وسماعه بصور وأشكال مختلفة في كثير من النقاشات لدى فئات مختلفة، ولعلها حالة أثرت على الشعور العام العربي لعقود، يمكن تلمسها في تسميات النكبة والنكسة، وأدى ذلك لتقديم حلول خرقاء وتنازلات في القضية على المستوى السياسي، والواقع أن اليأس يشكل خطرًا كارثيًا بشكل عام، وفي هذه القضية المصيرية بالذات، فقد استغرقنا كثيرًا من الوقت والجهد والأرواح كي ندرك أن ما نحصده من اليأس ليس إلا الخراب بعينه. 

لنعد أولًا لإدوارد سعيد، بما أنه المدار الذي تعود إليه أغلب الكتب والنقاشات المعاصرة حول القضية الفلسطينية، بسبب الجهد التأسيسي المعرفي والتحرري البصير الذي أنجزه إدوارد للقضية الفلسطينية ومستقبلها وللشرق عمومًا، ولإيمانه المستمر بأن الجهود الفردية يمكنها تغيير الواقع الظالم. يقول إدوارد سعيد في كتابه المهم «نهاية عملية السلام»: «نحتاج أن نذكر أنفسنا بأن الصراعات السياسية هي دائمًا صراعات إرادة، يحاول طرف أن يقنع الطرف الآخر أن يستسلم، أن يفقد الإرادة في المقاومة ومواصلة الكفاح، وهذا ليس شأنا عسكريا بل شأن سياسي ومعنوي». وهذا ما يجب علينا تذكره على الدوام. 

إن تفشي اليأس في أوساط المناصرين للقضية الفلسطينية أمر يمكن تتبع أسبابه، فكل المواد البصرية المعروضة يوميًا للمأساة الفلسطينية عبر الشاشات، سواء منصات ومواقع التواصل المختلفة اليوم، أو القنوات التلفزيونية بالأمس، عززت هذا الشعور، خاصة مع طول مدة القضية ومع استمرار الخسائر، وفيما قد يكون باعث بث تلك المواد هو النشر والتوثيق للجريمة الإسرائيلية والمشروع الصهيوني وانتهاكاته اللا أخلاقية واستخفافه بالمبادئ الإنسانية، فإن إدمان التعرض لكل تلك الصور والمآسي يأتي بنتيجة عكسية، ويفضي لترسيخ العجز الفردي وبث روح اليأس، والتحطيم المعنوي، خاصة لمن يدعوهم نعوم تشومسكي «من يتابعون القضية من منازلهم». 

اليأس هو الحالة التي ظلت إسرائيل تصدرها عبر صورة وحالة الفلسطيني المعاصر في الداخل طوال عقود، وبالتالي كانت تلك الأخبار ترسخ ضمنًا صور انتصار العنصرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ونجاح منهج الاستقواء المادي والعسكري والاحتلال لتغيير الواقع الطبيعي، وعلينا، شئنا أم أبينا، الاعتراف، والاستسلام إلى الواقع الإسرائيلي المفروض بالقوة الساحقة. وكل هذا ليس أكثر من تكتيك استعماري قديم، ونهج إسرائيلي معتمد، لتحطيم أي مقاومة أو فكرة تحرر، فالاستسلام لهذا الواقع الإسرائيلي، المفروض بالقوة والعنف، يجعلنا ننسى، أو نتناسى أو نتجاهل، قاعدة وضوح الحق الفلسطيني، وأن النظام الإسرائيلي هو نظام استعماري استيطاني عنصري ولا أخلاقي ينهض على عمليات تطهير عرقية وإبادة ممنهجة. 

ليست القضية الفلسطينية قضية معقدة وغير قابلة للحل، كما توحي بذلك الدوائر الإعلامية الصهيونية، بل هي ببساطة مسألة حق أهل الأرض الأصليين والحقيقيين وسكانها لآلاف السنين الذين دمرت إسرائيل قراهم وشردوا من أرض أجدادهم وأسلافهم التي عاشوا فيها لقرون، مقابل الادعاء الصهيوني الذي يريد أن يبرر لإسرائيل استيلاءها بالقوة، في القرن العشرين، على فلسطين، وطرد وتهجير وإبادة أهلها الحقيقيين وملاحقتهم والتضييق على من بقي منهم، عبر ادعاءات زائفة وممارسات وسياسات عنصرية غير طبيعية ولا قانونية وبدون أي أهلية أو شرعية. 

علينا أن نتذكر كذلك أن موقفنا المبدئي مع هذا الحق هو موقف حاسم تنبني عليه ردود أفعالنا، بما في ذلك نقدنا حتى للفصائل الفلسطينية وسياساتها، وإيماننا بضرورة النقد وأهميته لبناء حراك شامل وموقف أخلاقي متين وراسخ في صف فلسطين والفلسطينيين، من هنا فإن الدور الذي يجب على مثقفينا القيام به إنما هو ترسيخ الأمل في ضرورة العمل من أجل بناء غد فلسطيني منصف، وأن هذا المستقبل يتأسس عبر مواقفنا الداعمة وغير المستسلمة لليأس الذي تريد إسرائيل تصديره للفلسطينيين وللعالم. 

إن التمسك الضروري بالأمل، وبالحق والشرعية الفلسطينية، هو الذي يدفع كل الأفعال الملهمة لحركات مقاومة الصهيونية في كل مكان طوال العقود الماضية، وهو الدافع لكل ما نراه ونشهده اليوم من نشاط محموم في صفوف الجماهير تجاه هذه القضية المعاصرة، والمصيرية الحاسمة لعصرنا هذا، بما تمثله فلسطين من ضمير ووعي العالم اليوم، وهي الجهود التي بدأت تظهر ثمارها عبر ما نراه من تصدع وتضعضع في موقف الغرب الرسمي الداعم الرئيسي لإسرائيل. 

إن التنبؤات بانهيار المشروع الصهيوني في إسرائيل ليست مجرد حلم رومانسي، بقدر ما هي نتيجة استقراء يتفق عليه مفكرون كبار متخصصون في الموضوع منهم نعوم تشومسكي وعبدالوهاب المسيري، وذلك الاستنتاج قائم على استبصار مشاكل هيكلية قائمة في صلب المشروع الصهيوني الاستعماري، وهي مشاكل يدركها النظام الإسرائيلي، وهو يحاول تجنبها عبر العنف والقسوة والإبادة وزيادة معاناة ومآسي الفلسطينيين، وإسقاط حق العودة، فهذا هو السبيل التفجيري الوحيد الذي يراه إمامه، وليست كل الخراقات السياسية التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إلا تعبيرًا عن الأزمة، وعن الاختناق، الذي يحيط مصير النظام الإسرائيلي. 

لو أننا أبصرنا من الجهة الأخرى لرأينا كثيرًا من مظاهر الأزمة، ابتداءً من معاداة إسرائيل وتحدياتها للهيئات الدولية والأممية والحقوقية، وهي ليست غير تعبير عن إدراك النظام بأن استمراره المستقبلي إنما يقوم عبر سقوط القانون الدولي والحقوق، وبالتالي كل الهيئات والمؤسسات التي تمثله، والتي ترصد وتفضح بوجودها حجم الجريمة الإسرائيلية والانتهاكات المستمرة، وأصبحت إسرائيل تعادي حتى الإعلام الحر، بما أنه كذلك يفضح ويرصد الهاوية التي وقعت فيها إسرائيل. 

في الواقع، وبالعكس، فإن النهج الإسرائيلي هو التعبير اليائس، وكثير من القرارات التي يتخذها النظام الإسرائيلي لا يمكن فهمها إلا من هذه الزاوية، وذلك عبر تذكر كل المشاكل والمعضلات والمخاوف التي تحاصر إسرائيل وأبرزها الفشل، والانهيار الأخلاقي. 

هكذا يمكننا أن نرى بوضوح هذا اليأس في حجم القسوة والوحشية المفرطة لجيش متكامل مزود بأحدث الأسلحة والتجهيزات والتقنيات في غزة مقابل المدنيين، ونهج استهداف واغتيال المثقفين والإعلاميين والأكاديميين، بل وحتى نجوم مواقع التواصل، ونجوم الكرة، كل ذلك بالعكس أفعال انتحارية، وإذا تذكرنا إدوارد سعيد مرة ثانية الذي كان يشدد على ذلك في السياق الفلسطيني، فإن الأفعال الانتحارية هي تعبير عن اليأس: «والمأساة في عمليات التفجير الانتحارية أنها تنبع من اليأس». إن فلسطين الأمل مجسدة في جهود كل النشطاء المناصرين للحق والشرعية، الذين يتسع نطاق تأثيرهم كل يوم، والمناهضين للصهيونية ومشروعها، والذين يعملون على فضحها وفضح جريمتها المستمرة، وشيئًا فشيئًا أصبحنا نرى كيف أن صورة إسرائيل اليوم بدأت تخزي حتى أكبر داعميها. 

إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني