العرب والعالم

كيف أسهمت وسائل الإعلام الغربية في تحويل الإبادة الجماعية الإسرائيلية إلى "أخبار كاذبة"؟

28 أغسطس 2025
28 أغسطس 2025

  جوناثان كوك 

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

تبرير "إسرائيل" للمجزرة الجماعية بحق سكان غزة وتجويعهم، وهو ما تأكد رسميا باعتباره مجاعة مصطنعة من صنع الاحتلال، قام منذ البداية على سلسلة من الأكاذيب التي سرعان ما تبين كذبها، بداية من حكايات الرضّع المذبوحين، إلى الأطفال في الأفران، إلى روايات الاغتصاب الجماعي.

ولم يكن غريبًا أن تستمر "إسرائيل" في ترديد الأكاذيب الفادحة نفسها وهي تمارس، كما تفعل كل الأنظمة الاستبدادية ، تفكيك أبسط مقومات البقاء لسكان غزة. فقد قطعت المساعدات الإنسانية التي تقدمها وكالة "الأونروا"، ودمّرت مستشفيات القطاع، وقتلت واعتقلت وعذّبت الكوادر الطبية. وزعمت أنها تملك وثائق تثبت أن الأمم المتحدة مجرد واجهة لحركة حماس، لكن هذه الوثائق لم تُقدَّم أبدًا. وفي الوقت نفسه، تعرضت جميع مستشفيات غزة الستة والثلاثين للهجوم، بذريعة أنها مقامة فوق "مراكز قيادة وسيطرة" لحماس، وهي مراكز لم يُعثر عليها قط.

ولم تكتفِ إسرائيل بذلك، بل وسّعت هذه الرواية لتعتقل نخبة أطباء القطاع الذين كانوا يعملون ليلًا ونهارًا لمعالجة أفواج المصابين من الرجال والنساء والأطفال، متهمةً إياهم بأنهم "عناصر حماس متخفّون”".

وكما تفعل كل سلطة إبادة، خصوصًا تلك التي تريد الإبقاء على وهم أنها "ديمقراطية" تمتلك "أكثر جيوش العالم أخلاقًا"، اجتهدت إسرائيل في إحاطة جرائمها بستار كثيف من الظلام. فقد منعت الصحفيين الغربيين من دخول غزة، ثم شرعت في تصفية الصحفيين الفلسطينيين واحدًا تلو الآخر، حتى تجاوز عددهم 200 صحفي، 11 منهم في الأسبوعين الماضيين فقط، بينهم مراسلون لموقع ميدل إيست آي والجزيرة. أما من نجا، فقد اضطر للهروب إلى خارج البلاد طلبًا للسلامة.

والمؤسسة الصحفية الغربية، التي لم تُبدِ إلا صمتًا شبه تام حيال استبعادها طيلة اثنين وعشرين شهرًا من الإبادة، اكتفت بهز أكتافها فيما كان زملاؤها في غزة يُبادون ببطء. وكأن شيئًا لم يحدث.

كان ذلك حتى هذا الشهر، حين احتفلت إسرائيل بتنفيذ غارة جوية قتلت ستة صحفيين فلسطينيين، من بينهم الفريق الخماسي الذي كان يغطي مدينة غزة لصالح قناة الجزيرة. جاء توقيت الضربة مناسبا للاحتلال، إذ تستعد إسرائيل لاستدعاء 60 ألف جندي لشن الهجوم الأخير على ما تبقى من غزة، حيث يتحصن نحو مليون فلسطيني، نصفهم من الأطفال، محاصرين تحت التجويع حتى الموت.

وهؤلاء المدنيون إما سيُقتلون أو يُساقون إلى معسكر اعتقال تسميه إسرائيل زورًا "مدينة إنسانية" قرب الحدود المصرية. وهناك، سيُتركون في انتظار ترحيلهم النهائي – ربما إلى جنوب السودان، الدولة المنهارة التي كانت إسرائيل قد زودتها بالأسلحة التي أشعلت الحرب الأهلية وأعمال العنف فيها.

حملة التشويه

بررت إسرائيل قتل طاقم الجزيرة بالادعاء أن أحدهم، أنس الشريف، الصحفي الحاصل على جائزة بوليتزر، كان "إرهابيًا حمساويًا" متخفيًا. لم يكن هذا الادعاء أقل عبثية من الذرائع التي تستخدمها إسرائيل لتبرير إقصاء العاملين في الإغاثة، وقتلها واعتقالها لمئات الأطباء في غزة.

فأطباء القطاع، الذين يواجهون يوميًا منذ قرابة عامين أعدادًا من القتلى والجرحى لا تحدث عادة إلا في الكوارث الطبيعية الكبرى، وفي ظروف يُحرمون فيها من أبسط الأدوية والمعدات، يُفترض، بحسب الرواية الإسرائيلية، أن لديهم وقتًا فائضًا ليتآمروا مع مقاتلي حماس.

ويُقال لنا إن أنس الشريف، هو الآخر، كان يجد بين استراحاته القصيرة من تغطيته المحمومة التي استمرت 22 شهرًا ، معظمها أمام الكاميرا، متسعًا ليعمل كقائد ميداني في حماس "يوجه هجمات صاروخية ضد المدنيين الإسرائيليين". وكأن الرجل يمتلك قدرات خارقة تسمح له بالعيش دون نوم لعامين كاملين، وأن يكون، كجسيم كوانتي، في مكانين مختلفين في الوقت نفسه!

نعرف الآن بالضبط مصدر هذه القصة المضحكة وهو وحدة إسرائيلية تسمى "خلية الشرعنة". هذا الاسم، الذي لم يكن من المفترض أن يُكشف، يكشف الغرض بوضوح. فمهمتها هي شرعنة جرائم إسرائيل عبر قصص تُشيطن الضحايا وتجعل الإبادة أكثر قابلية للتصديق لدى الجمهور الإسرائيلي والغربي.

وقد كشف موقع الأخبار الإسرائيلي +972 هذه الخلية بعد أيام قليلة من اغتيال الشريف هذا الشهر، وأفاد بأنها أنشئت بعد السابع من أكتوبر 2023، اليوم الذي خرجت فيه حماس وفصائل أخرى من "سجن غزة الكبير" ناشرة الفوضى، بعد 17 عامًا من الحصار الوحشي.

كان الهدف المركزي لـ"خلية الشرعنة" هو مساعدة إسرائيل على زرع روايات في الإعلام الغربي تصوّر مستشفيات غزة كأوكار للإرهاب، وتصف صحفييها بأنهم "عملاء سريون لحماس".

أدلة ملفقة

وبحسب ثلاثة مصادر استخباراتية إسرائيلية نقل عنها موقع +972، فإن الدافع وراء إنشاء الخلية لم يكن أمنيًا، بل دعائيًا بحتًا، ما يُعرف في إسرائيل باسم "هاسبارا" (الدعاية).

وذكرت التقارير أن الخلية كانت في حالة يأس لإيجاد صلة، أي صلة، بين مجموعة صغيرة من الصحفيين في غزة وحماس، بغرض زرع الشك في عقول الجماهير الغربية، وتبرير قتل الصحافة في القطاع ومنعها من كشف الجرائم الإسرائيلية.

تمامًا كما ظل منتقدو "إسرائيل" يحذرون منذ زمن طويل، قال مسؤولون استخباراتيون لموقع +972 إن عمل هذه الخلية كان يُنظر إليه على أنه "ضروري لتمكين إسرائيل من إطالة أمد الحرب". فالغرض كان منع تصاعد المعارضة الشعبية في الغرب ضد الإبادة إلى مستوى قد يجبر العواصم الغربية الداعمة لإسرائيل على وقف آلة القتل.

وأضاف مصدر آخر: "كانت الفكرة أن يتمكن الجيش الإسرائيلي من العمل دون ضغوط، حتى لا تتوقف دول مثل أمريكا عن تزويده بالأسلحة".

وبحسب هذه المصادر، كان المسؤولون الإسرائيليون متحمسين للغاية لإيصال رسائلهم المضلِّلة إلى الجماهير الغربية بحيث "اختصروا الطريق"، وهو تعبير مهذب يبدو أنه يعني ببساطة أنهم لفّقوا الأدلة.

فبعد مقتل مراسل الجزيرة إسماعيل الغول وزميله المصوّر في يوليو 2024، استشهدت إسرائيل بوثيقة تعود إلى عام 2021، قالت إنها وُجدت على "حاسوب لحماس"، لتزعم أنه "عنصر في الجناح العسكري"، بل وادعت أنه شارك في هجوم السابع من أكتوبر 2023 على إسرائيل.

لكن الوثيقة المزعومة نفسها تذكر أن الغول حصل على رتبته العسكرية عام 2007، أي عندما كان في العاشرة من عمره فقط!

أما في حالة أنس الشريف، فقد جرى اتهامه مسبقًا. ففي أكتوبر 2024 زعمت إسرائيل أنه وخمسة صحفيين آخرين من قناة الجزيرة ينتمون سرًا إلى الأجنحة العسكرية لحماس أو حركة الجهاد الإسلامي. وفي مارس اغتيل أحدهم، حسام شباط.

خدعة "الأخبار المزيفة"

لم يقتصر التشويه على صحفيي الجزيرة العاملين في غزة، بل تعدّى ذلك إلى القناة نفسها. فبإدمانها على الأكاذيب المبالغ فيها، زعمت إسرائيل أن القناة التي تتخذ من الدوحة مقرًا لها تتلقى توجيهات تحريرية مباشرة من حماس.

وبعد أشهر من بدء الإبادة، نسج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رواية بلا أدلة مفادها أن الجزيرة "قناة إرهابية" وأنها "شاركت فعليًا في مجزرة السابع من أكتوبر". وقد وفّر ذلك الغطاء لإسرائيل كي تحظر القناة العام الماضي، وتغلق مكاتبها في القدس الشرقية المحتلة بشكل غير قانوني، ومنذ سبتمبر أيضًا في الضفة الغربية.

كان هناك تشابه مباشر بين هذه السياسة واستراتيجية إسرائيل ضد الأونروا، حيث سخّرت أبشع الأكاذيب لطردها من غزة، تاركة السكان نهبًا لجنودها ولجماعة مرتزقة مدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة، تحمل اسمًا مضللاً هو "مؤسسة غزة الإنسانية".

وقد تمثلت خطة هذه المؤسسة في إرهاب السكان وإبعادهم عن ما يسمى "مراكز المساعدات" عبر إطلاق النار القاتل. وهو ما أتاح استمرار حملة التجويع التي يُلاحَق بسببها نتنياهو أمام المحكمة الجنائية الدولية، تحت غطاء "مبادرة إنسانية" مزعومة.

ومنذ يوليو، كانت لجنة حماية الصحفيين تحذر من أن حياة أنس الشريف في خطر داهم، وأنه مستهدف "بحملة تشويه عسكرية إسرائيلية، يعتقد أنها تمهيد لاغتياله". وقد أوضح المتحدث باسم الجيش، أفيخاي أدرعي، الشهر الماضي أن تقارير الشريف من مدينة غزة "تسيء إلى صورة إسرائيل" عبر الترويج لـ"حملة تجويع حماس الكاذبة".

وادعى أدرعي أن الشريف جزء من "الآلة العسكرية لحماس" لمجرد أنه كان يغطي المجاعة المتصاعدة التي حذرت منها الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وكبريات منظمات حقوق الإنسان منذ شهور، والتي أكد برنامج التصنيف المرحلي للأمن الغذائي الأسبوع الماضي أنها بلغت مستوى المجاعة الأقصى.

وبالطريقة نفسها التي افتعلت بها إسرائيل مجاعة غزة عبر تشويه وإقصاء وكالات الإغاثة الأممية، ها هي تمنع التغطية الحقيقية للمجاعة عبر شيطنة الصحفيين الفلسطينيين واغتيالهم. ففي يوم الاثنين الماضي قصفت إسرائيل مستشفى ناصر في خان يونس، فقتلت 21 شخصًا، بينهم خمسة صحفيين يعملون مع ميدل إيست آي ووكالتي رويترز وأسوشيتد برس إلى جانب وسائل أخرى.

إن الروايات المختلقة عن ارتباط الصحفيين بحماس تخدم الغرض نفسه في الحالتين: فإذا أمكن إقناع الرأي العام الغربي بأن الصحفيين الفلسطينيين يعملون تحت توجيه حماس، فإن تغطية الجرائم الإسرائيلية يمكن عندها أن تُرفض باعتبارها "أخبارًا مزيفة"، وبذلك تطول الإبادة أكثر فأكثر، حتى مع امتلاء شاشاتنا بصور الأطفال الهزالى.

سؤال "التناسب"

وعند تنفيذ اغتيال الشريف، زعمت إسرائيل أن لديها أدلة على كونه "إرهابيًا حمساويًا فاعلًا" و"رئيس خلية في لواء الصواريخ". لكن حتى الوثائق التي نشرتها، دون أن تتيح أيًا منها للتحقق المستقل، أشارت إلى أنه جُنّد عام 2013 وغادر الحركة عام 2017.

حتى إذا افترضنا جدلًا صحة هذه الادعاءات، وهو افتراض ساذج بالنظر إلى السجل الطويل لإسرائيل في الكذب ، فإنها تعني أن الشريف لم يكن على صلة بحماس طوال ثماني سنوات قبل أن تستهدفه.

بمعنى آخر، حتى وفق "الأدلة" المتخيلة التي قدمتها "خلية الشرعنة" الإسرائيلية، كان الشريف يتمتع بالصفة المدنية حين اغتالته إسرائيل مع خمسة صحفيين آخرين بجواره. ولذا فإن استهداف خيمتهم يُعد جريمة حرب فاضحة.

غير أن ما يثير الدهشة ليس الأكاذيب الإسرائيلية، فهي جوهر صناعتها الدعائية الرسمية، بل استمرار الإعلام الغربي في التواطؤ بنشر هذه الأكاذيب والترويج لها.

نشرت صحيفة بيلد، الأكثر انتشارًا في ألمانيا، على صفحتها الأولى عنوانًا بدا وكأنه صادر مباشرة عن الجيش الإسرائيلي: "إرهابي متخفٍّ في صورة صحفي قُتل في غزة". بلا صيغة ادعاء، ولا علامات تنصيص، بل جملة تقريرية صلبة.

أما الإعلام البريطاني فلم يكن أفضل حالًا، إذ سارعت معظم المنصات إلى إبراز اتهامات إسرائيل الملفقة بحق أنس الشريف تحت عنوان "الشرعنة"، من دون أي دليل. والأدهى أن تغطية ال بي.بي.سي ، في برنامجها الأشهر (نيوز أت تَن) ، تبنّت بالكامل رواية إسرائيل، واعتبرت الشريف هدفًا مشروعًا، بل رددت، دون أدنى نقد، الافتراض المسبق بأن إسرائيل استهدفته هو وحده.

وطرحت القناة سؤالًا فجًّا وموجَّهًا بوضوح: "يبقى سؤال التناسب: هل من المبرر قتل خمسة صحفيين عندما كان الهدف واحدًا فقط؟".

إن صياغة "التناسب" هذه تفترض سلفًا أن لإسرائيل حق الرد بالقوة القاتلة على "سبب مهيج"، أي الروابط المزعومة للشريف بحماس، ثم تكتفي بالتساؤل عما إذا كان ذلك السبب يبرر حجم الرد الإسرائيلي. وهو بالضبط ما كانت تتمناه إسرائيل. فبفضل عمل "خلية الشرعنة"، انحرفت تغطية ال بي.بي.سي من توصيف جريمة حرب إسرائيلية بحق الصحفيين، إلى نقاش بارد حول ما إذا كان الفعل "موزونًا" أو "حكيمًا"!

قلب الطاولة

يقدّم بيرس مورغان، مقدم البرنامج الإلكتروني الشهير، الذي يُعد أحد أبرز منصات الجدل بين أنصار إسرائيل ومعارضيها، مثالًا حيًا على مدى سهولة تمكّن إسرائيل من التحكم في سردية الإعلام. فمورغان يجسّد بوضوح استعداد الصحفيين الغربيين لتقبّل الافتراضات العنصرية ضد الصحفيين غير الغربيين، حتى عندما يتظاهرون بمناقشتها.

فبعد أيام قليلة من اغتيال الشريف، استضاف مورغان جمال الشيال، مدير برنامج 360 في قناة الجزيرة، ليواجه الصحفي جوتام كونفينو، الذي سبق أن عمل في القناة الإسرائيلية i24 News، وهي القناة التي لعبت دورًا محوريًا في نشر أكذوبة "الأطفال المذبوحين". ويكتب كونفينو حاليًا في صحف يمينية شديدة الانحياز لإسرائيل، مثل التليغراف ونيويورك صن.

كان دور كونفينو في المناظرة هو تدعيم الرواية الإسرائيلية، عبر ترديد الشبهات حول أن أنس الشريف "إرهابي تابع لحماس". أما جمال الشيال فقد ردّ بإبراز السجل الطويل لإسرائيل في اغتيال الصحفيين الذين يفضحونها، وخاصة الفلسطينيين. وأشار إلى الجريمة الشهيرة المتمثلة في إعدام الصحفية الفلسطينية، الأمريكية شيرين أبو عاقلة عام 2022، وما تبعها من انكشاف سلسلة الأكاذيب الإسرائيلية التي هدفت إلى التغطية على مسؤوليتها عن اغتيالها.

كما لفت الشيال إلى المخاطر الأوسع التي تهدد سلامة الصحفيين نتيجة التواطؤ في حملات التشويه، مثل تلك التي استهدفت الشريف، والتي تقوم على فكرة أن اغتيال الصحفيين مبرَّر إذا كانت لديهم مواقف سياسية لا ترضي جلاديهم. غير أن هذا الطرح مرّ مرور الكرام على بيرس مورغان.

وعندما وجد كونفينو نفسه عاجزًا عن تقديم أي دليل على أن الشريف قائد خلية في حماس، حوّل هجومه إلى ادعاء أوسع مفاده أن مراسل الجزيرة ربما كان "متعاطفًا" مع حماس. ولم يكتف بذلك، بل وجّه سهامه إلى جمال الشيال نفسه، زاعمًا أنه غير مؤهل للدفاع عن الشريف لأنه عبّر عن مواقف مناهضة لإسرائيل على وسائل التواصل الاجتماعي.

والأدهى أن مورغان انضم إلى كونفينو في استجواب الشيال حول آرائه السياسية، مطالبًا إياه بإدانة حماس على هجوم السابع من أكتوبر 2023. والمفارقة أن أحدًا لم يطلب من كونفينو أن يدين إسرائيل على إبادة جماعية أشد فداحة.

كان هذا الحوار المثير للقلق، والمشحون بنَفَس عنصري، قائمًا على افتراض أن الصحفيين العرب يجب أن يثبتوا "نزاهتهم الأيديولوجية" للصحفيين الغربيين قبل أن تُحتسب آراؤهم وحياتهم ذات قيمة.

لقد حضر الشيال للدفاع لا عن الشريف فحسب، بل عن حق الصحفيين في التغطية الحرة دون تهديد بالاغتيال، مهما كانت مواقفهم السياسية. غير أنه وجد نفسه مضطرًا إلى الدفاع عن حقه في المشاركة في النقاش أساسًا، بناءً على مواقفه الخاصة.

وهكذا تحوّل برنامج يقدمه أحد أبرز الصحفيين البريطانيين، وكان يفترض أن يندد بوضوح بجريمة الحرب الإسرائيلية المتمثلة في الاغتيال المنهجي للصحفيين في غزة، إلى حملة تفتيش عقائدية تستهدف الصحفيين المنتقدين لإسرائيل.

أرواح مستباحة

السياق الذي غاب عن التغطية الغربية هو هذا: لقد قتلت إسرائيل أكثر من 240 صحفيًا فلسطينيًا في غزة خلال العامين الماضيين، أي أكثر من عدد الصحفيين الذين قُتلوا في الحربين العالميتين معًا، وفي حرب كوريا، وحرب فيتنام، وحروب يوغوسلافيا السابقة، وحرب أفغانستان مجتمعة.

إنه نمط واضح، صارخ، لكن يبدو أن الصحفيين الغربيين يتعامون عنه كليًا، حتى مع استمرار إسرائيل في منعهم من التغطية داخل غزة، بعد مرور قرابة عامين على الإبادة.

إيرين خان، المقررة الخاصة للأمم المتحدة لحرية الرأي والتعبير، علّقت مؤخرًا بأن إسرائيل "تدير برنامج اغتيالات مدروسًا بعناية، يستهدف إزالة أي نوع من التغطية المستقلة لما يحدث في غزة".

إن تساهل الإعلام الغربي مع الأكاذيب الفاضحة لإسرائيل لا يمثل مجرد تخليًا عن أبجديات أخلاقيات الصحافة، بل يضع أيضا علامات استهداف على ظهور جميع الصحفيين الذين ما زالوا يغطون الأحداث في غزة. وهو يبعث برسالة إلى إسرائيل مفادها أن حياتهم رخيصة، وأن حتى أوهى الذرائع لقتلهم ستؤخذ على محمل الجد. والأدهى أن الصحفيين الغربيين أنفسهم يساهمون في تطبيع سابقة بالغة الخطورة، تهدد مستقبلهم الشخصي أمام الدول المارقة، كما تهدد مستقبل الصحافة الحربية كلها.

نمط الأكاذيب

إن روايات "الشرعنة" التي تروّج لها إسرائيل لا تنجح إلا بفضل استعداد الصحفيين الغربيين لتلقف هذه الحملات التضليلية، وتهيئة الجمهور الغربي لقبولها بدوره. وهي تنجح لأن طبقة سياسية وإعلامية غربية زرعت فينا، جيلًا بعد جيل، عنصرية متأصلة.

وقد أنشأت إسرائيل "خلية الشرعنة" لأنها تعرف مدى سهولة استغلال المخاوف الغربية، فهي تقدم روايتها عبر متحدثين غربيين، يتحدثون بلسان الجمهور وبطلاقة لغته، فيستحضرون قلقًا استعماريًا قديمًا عن "البرابرة عند الأبواب" وعن "تهديد الحضارة الغربية".

ومع ذلك، كلما طالت المجازر الإسرائيلية شهرًا بعد شهر، وجد الرأي العام الغربي صعوبة متزايدة في تصديق هذه الروايات. فكلما استمر القصف العنيف على غزة وتجويع سكانها، زاد انكشاف نمط الأكاذيب الإسرائيلية، وبرزت صورة أوضح وهي أن هذه ليست حربًا دفاعية كما تزعم إسرائيل، بل مشروع إبادة جماعية.

الصور الصادمة للأطفال الهزالى، بعد أشهر من اعتراف إسرائيل العلني بأنها تتعمد تجويع سكان غزة، تنطق بحقيقة لا تحتاج إلى تأكيد رسمي من برنامج التصنيف المرحلي للأمن الغذائي.

وكشفت صحيفة +972 الأسبوع الماضي أنه، خلافا لادعاءات إسرائيل المستمرة بأن معظم قتلى غزة من مقاتلي حماس، تُظهر أرقام الجيش الإسرائيلي نفسه أن أكثر من أربعة من كل خمسة قتلى هم مدنيون. وهذه النسبة لم تأتِ مصادفة. ففي تسجيل صوتي تسرّب مؤخرًا لقناة كانال 12 الإسرائيلية، يُسمع الجنرال أهارون حليفا، الذي قاد الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية خلال الأشهر الستة الأولى بعد هجوم السابع من أكتوبر 2023، وهو يقول إن قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين "ضروري من أجل الأجيال المقبلة". وأضاف: "مقابل كل قتيل في 7 أكتوبر يجب أن يموت خمسون فلسطينيًا. ولم يعد يهم إن كانوا أطفالًا".

بمعنى آخر، كان هدف الجيش الإسرائيلي منذ البداية ارتكاب مذابح عشوائية واسعة لإجبار الفلسطينيين على الخضوع الدائم والقبول بعبوديتهم إلى أجل غير مسمى.

ومع تزايد الصور التي تُظهر الدمار الشامل لغزة، واندثار مستشفياتها، والمجاعة المصطنعة هناك، لم يعد ممكنًا للجمهور أن يتجاهل التناقض في أن عدد القتلى المعلن بالكاد يرتفع منذ عام. إن ادعاء إسرائيل بأن حصيلة الـ62 ألف قتيل مبالغ فيها لأن وزارة الصحة في غزة "تخضع لحماس" يبدو مثيرًا للسخرية. فقد دمرت إسرائيل مكاتب الحكومة في القطاع، وجعلتها غير قادرة على إحصاء القتلى. ولهذا بدأ معظم المتابعين، انسجامًا مع تقديرات الخبراء، يعتقدون أن العدد الحقيقي للضحايا قد يبلغ مئات الآلاف.

كل هذا كان يمكن أن يتضح منذ زمن لو كنا أصغينا للصحفيين الفلسطينيين بدلًا من مناورة ال بي.بي.سي ومراوغات بيرس مورغان. فهؤلاء وأمثالهم من الصحافة الغربية لعبوا دورًا جوهريًا في "شرعنة" الإبادة الإسرائيلية. لقد أثبت الصحفيون الغربيون أنهم قضاة غير جديرين بالثقة في مسألة الحقيقة داخل غزة.

لكن الإبادة تطرح درسًا أوسع: عمّا يُعد خبرًا في الداخل والخارج، ومن يُسمح له بصياغة الخبر ولماذا. إن التعتيم على إبادة غزة، والتواطؤ الغربي في ذلك، يقدم لنا صورة عالية الدقة لأجندات عنصرية استعمارية تتحكم بما نطلق عليه "الأخبار". فهل نحن مستعدون لتعلم هذا الدرس؟

•جوناثان كوك مؤلف ثلاثة كتب عن الصراع الفلسطين- الإسرائيلي، وحائز على جائزة مارثا جيلهورن الخاصة بالصحافة.

** عن ميدل إيست آي