ترامب يعيد اختراع الفساد: الاحتيال على الطريقة الأمريكية
ترجمة: نهى مصطفى
سواء كان يطلق مخططات للعملات الرقمية، أو يمنح عفوًا لأقارب كبار المانحين، فقد واجه دونالد ترامب في الأشهر الأولى من ولايته الثانية اتهامات متكررة بالفساد. وتثير كل حالة منها مخاوف جدية تتعلق بإساءة استخدام السلطة، أو الحكم غير الديمقراطي، أو النفوذ الأجنبي. غير أن تقييم الاتجاهات الأوسع للفساد يظل مهمة معقدة، إذ يصعب تحديده بدقة ويستحيل قياسه بشكل مباشر لأنه غالبًا ما يحدث في الخفاء. بعض أشكاله قانوني، وبعضها غير قانوني، وينشأ أحيانًا في القطاع العام أو الخاص، وأحيانًا في المساحات الرمادية بينهما.
حتى وقت قريب، كانت الولايات المتحدة تُعد، مثلها مثل معظم ديمقراطيات السوق الأخرى، متعافية نسبيًا من الفساد. فقد ساهمت تشريعات مثل قانون ممارسات الفساد الأجنبية لعام 1977، الذي يحظر على الشركات والأفراد الأمريكيين رشوة المسؤولين الأجانب (وهو القانون الذي سعت إدارة ترامب لاحقًا إلى تقليص نطاقه)، في جعل واشنطن رائدة عالميًا في مكافحة الفساد. غير أن هذه السمعة أخذت في التراجع حتى قبل تولي ترامب ولايته الثانية، في ظل الجدل حول انتهاكات محتملة للمعايير الأخلاقية في المحكمة العليا، وتنامي نفوذ المصالح الخاصة في السياسة، وفضائح مالية تورط فيها بعض أعضاء الكونجرس. ففي مؤشر مدركات الفساد لعام 2014 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلت الولايات المتحدة المرتبة السابعة عشرة من أصل 173 دولة ومنطقة، بنتيجة 74 من 100، لكنها تراجعت بحلول عام 2024 إلى المركز الثامن والعشرين (بنتيجة 65)، متعادلة مع جزر البهاما. إلا أن التطور الأشد خطورة لا يتعلق بقرار فردي أو بزيادة معدلات الفساد – التي يصعب قياسها بدقة – بل بتحول نوعي في طبيعته داخل أعلى مستويات الحكم. فمع تآكل الحواجز المؤسسية، اعتمدت إدارة ترامب نمطًا مركزيًا تُستمد فيه السلطة مباشرة من قائد واحد، بما يفتح المجال أمام صفقات شخصية تؤثر في القرارات الرسمية. وهذا الشكل من الفساد يهدد أسس العمل السياسي والاقتصادي الحر، وقد يتحول بمرور الوقت إلى عنصر بنيوي في النظام، مما يجعله إصلاحه بالغ الصعوبة.
في جوهره البسيط، يُعرّف الفساد بأنه استغلال المناصب أو الموارد العامة لتحقيق مصالح خاصة. غير أن هذا التعريف يظل واسعًا، مما يفتح المجال لتأويلات مختلفة حول ما يمكن اعتباره فسادًا، خصوصًا مع تنوع مظاهره من بلد لآخر. فمن غير المنطقي القول إن الفساد في الدنمارك، التي تتصدر بانتظام مؤشرات النزاهة، هو نفسه في الكاميرون التي تأتي في مراتب متأخرة جدًا؛ فالمجتمعات والأنظمة السياسية تختلف في بنيتها، وكذلك في العوامل التي تتيح أو تحدّ من الممارسات الفاسدة.
رغم هذا التباين، يمكن تصنيف الفساد في أربعة أنماط رئيسية: أسواق النفوذ، وعصابات النخبة، رجال الأعمال فاحشي الثراء والعشائر، وأقطاب السلطة. وهذه الأنماط ليست ثابتة أو حصرية، لكنها تكشف اختلافات جوهرية في طرق عمل الدول. فبعض أشكال الفساد تؤجج العنف، بينما يعمل بعضها الآخر كبديل له. بعضها يعيق التنمية الاقتصادية والسياسية بشكل حاد، في حين يمكن للبعض الآخر أن يعزز تحالفات بين النخب تُسهّل النمو السريع. وفي بعض الحالات يقتصر الفساد على التأثير في قرارات بعينها، بينما قد يصل في حالات أخرى إلى السيطرة الكاملة على الدولة.
أما في الولايات المتحدة، فقد ارتبط الفساد تاريخيًا بما يُعرف بـ"سوق النفوذ"، حيث يصبح النفوذ السياسي وإمكانية الوصول إلى صناع القرار سلعة قابلة للمساومة. ويظهر هذا النمط غالبًا في المجتمعات ذات الاقتصادات المتقدمة والنظم السياسية المفتوحة؛ فالمؤسسات القوية تمنع الاستيلاء الكلي على الدولة، لكنها في الوقت ذاته تجعل النفوذ السياسي ذا قيمة عالية تستحق الدفع مقابله. في هذا السياق، يُعتبر الضغط السياسي والتبرعات الانتخابية في الولايات المتحدة قانونيًا، ويحميه التفسير القضائي للتعديل الأول. وبالمثل، فإن دولًا أخرى مثل بلغاريا والبرتغال وسلوفاكيا لا تضع قيودًا قانونية على أنشطة الضغط، فيما تلزم دول كالدنمارك وألمانيا والسويد جماعات الضغط بالتسجيل.
وفي جميع هذه الأنظمة، حيث تمتلك مجموعات مصالح ثرية قدرًا كبيرًا من النفوذ، تصبح الرشوة المباشرة في الغالب غير ضرورية. غير أن ما يُسمى بالفساد "القانوني" يظل فسادًا، إذ يتيح للمصالح المالية أن تزيح المواطنين العاديين عن دائرة اتخاذ القرارات التي تمس حياتهم. ومن أبرز نتائجه ما يُعرف بـ"السيطرة التنظيمية"، حين تتمكن الشركات عبر تمويل الحملات الانتخابية من التأثير في المشرعين الذين يضعون القوانين المنظمة لقطاعاتها، بل وأحيانًا في الجهات المكلفة بتطبيقها. مثل هذا الواقع يفاقم مشاعر الاستياء الشعبي، وقد يدفع في النهاية إلى صعود الحركات الشعبوية والأحزاب المناهضة للنظام القائم.
في الدول ذات المؤسسات المعتدلة القوة، يتجسد الفساد غالبًا في ما يُعرف بـ"كارتل النخبة"، حيث تتواطأ شبكات من السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال والإعلاميين على تقاسم النفوذ والعوائد خلف الكواليس. هذا النمط يوفّر استقرارًا شكليًا لكنه هش؛ ففي كوريا الجنوبية مثلًا، تحولت الرئاسة إلى محور لتصفية الرشاوى الضخمة من التكتلات العائلية، وفي إيطاليا تظاهرت الأحزاب بالتنافس بينما تقاسمت العقود والمنافع، وفي الأرجنتين نسجت تحالفات لشراء الأصوات واستغلال التأميم والتلاعب بالعملة. لكن هذه التحالفات النخبوية سرعان ما تنهار عند الأزمات، كما في فضيحة "تانجينتوبولي" التي أطاحت بالنظام الحزبي الإيطالي، أو الأزمة الآسيوية التي عرّت فساد التكتلات الكورية وقادت لانهيار اقتصادي واسع.
في الدول ذات المؤسسات الضعيفة والتحولات السياسية السريعة، يظهر شكل مضطرب من الفساد النخبوي حيث يتنافس الأوليجارشيون، أو رجال الأعمال الفاحشي الثراء، الذين يسيطرون على قطاعات الاقتصاد والسياسة، والعشائر على السلطة والثروة باستخدام الرشوة والخصخصة والتلاعب بالقضاء، وأحيانًا العنف، ما يخلق مناخًا من انعدام الأمن يعرقل التنمية ويقمع المجتمع المدني. في هذه البيئات، قد تحل المافيا أو عصابات المخدرات محل الدولة في إنفاذ القانون وإدارة العقود.
في بعض الدول الأضعف مؤسسيًا، يتجسد الفساد في نمط "قطب السلطة"، حيث يحتكر فرد أو عائلة أو مجلس عسكري القرار السياسي ويستند نفوذه إلى الولاء الشخصي أكثر من الهياكل الرسمية، فيحوّل موارد الدولة من الضمان الاجتماعي والطاقة إلى المساعدات والتنمية إلى غنائم لتثبيت شبكات الولاء. بهذا الشكل، يصبح الفساد جزءًا بنيويًا من الحكم لا مجرد انحراف، ما يضر بالتنمية الاقتصادية والسياسية لكنه لا يقود عادةً إلى فوضى واسعة بسبب غياب منافسة مؤسسية حقيقية. هذا النموذج ظهرت ملامحه في الولايات المتحدة بعهد ترامب، حيث خلط بين السلطة والمصالح التجارية عبر صفقات استثمارية واتفاقيات ترخيص غامضة، وعفو بدا وكأنه مقابل تبرعات مالية، وصفقات ضغط للحصول على عفو رئاسي، وصولًا إلى ترتيبات خارجية أثارت مخاوف من تداخل الهدايا مع النفوذ السياسي.
منحت الصلاحيات الموكلة إلى رئاسة الولايات المتحدة دونالد ترامب نفوذًا واسعًا، غير أن اللافت هو الطريقة التي يوظف بها سلطته وكيفية تصرف المتقربين منه ـ من أفراد عائلته، ومستثمري العملات الرقمية، وشركائه التجاريين، ومسؤولي الحكومة الأمريكية، بل وحتى الحكومات الأجنبية ـ حياله. فبدلاً من الاعتماد على القنوات المؤسسية التقليدية للتأثير المباشر في السياسة، يسعى هؤلاء إلى كسب وده الشخصي وإظهار الولاء له. وفي المقابل، لا يستخدم ترامب سلطاته فقط لإثراء نفسه، بل لتكريس صورته كصاحب القرار الأوحد، ساعيًا إلى مستوى من الهيمنة الشخصية لم تعرفه السياسة الأميركية من قبل.
شهدت الولايات المتحدة فضائح فساد في عهود سابقة، مثل "ويسكي رينج" في سبعينيات القرن التاسع عشر و"قبة إبريق الشاي" في عشرينيات القرن الماضي، لكنها لم تمس الرؤساء شخصيًا، فيما اضطر آخرون كنيكسون للاستقالة وكلينتون لمواجهة محاكمة عزل. أما ترامب فتميّز عنهم جميعًا، إذ دمج بين سلطته الرسمية وصفقاته الشخصية لتعزيز نفوذه، من دون أن يواجه تداعيات مماثلة أو يُحاسب على أفعاله.
رغم أن أسلوب ترامب في الفساد لن يغيّر الولايات المتحدة فورًا، فإن مؤسساتها المحلية والولائية ما زالت تعمل وفق شبكات نفوذ تقليدية مستقلة عنه، فيما يحافظ الاقتصاد والنظام السياسي على تنوع يمنع الهيمنة السريعة. غير أن ممارسات إدارته لترهيب الجامعات والإعلام ومكاتب المحاماة تُظهر بوادر تحول نحو "دولة استبدادية تنافسية"، حيث تبقى الانتخابات شكلية بينما تُقوَّض الحقوق والحريات. ومع مرور الوقت، قد يتحول الفساد من مجرد خلل إلى أداة منهجية لترسيخ السلطة الشخصية، وإضعاف الضوابط الديمقراطية، وتمكين الحكم عبر الولاءات والتلاعب بالمؤسسات.
الفساد الذي أسسه ترامب لا يهدد المعايير الديمقراطية الأمريكية فحسب، بل يفتح المجال أيضًا لتأثيرات خارجية خطيرة، إذ يتجاوز القوانين المصممة لحماية النظام السياسي من التدخل الأجنبي ويتعامل مباشرة مع قادة سلطويين عبر صفقات شخصية. هذا النمط يجعل الولايات المتحدة عرضة لاستغلال نفوذ خارجي، سواء عبر استثمارات مشبوهة أو مقايضات دبلوماسية وتجارية، بما يقوّض الضوابط المؤسسية ويضعف قدرة واشنطن على حماية استقلالها السياسي.
عندما يتحول الفساد إلى جزء بنيوي من حكم الزعيم السياسي، مستخدمًا الامتيازات لقمع المعارضة وترسيخ سلطته، تصبح أدوات الإصلاح التقليدية عاجزة، إذ تكون القوانين والرقابة نفسها تحت سيطرة الفاسدين، فيما يظل المجتمع المدني ضعيفًا. ويظهر ذلك بوضوح في المجر حين ألغت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية مهمتها لمكافحة الرشوة عام 2024 بسبب تجاهل حكومة أوربان لتوصياتها.
ما تزال الولايات المتحدة بعيدة عن السقوط الكامل في الاستبداد، لكن الضوابط المصممة للحد من الفساد وتركيز السلطة تتآكل تدريجيًا. فقد أدى تضخم التبرعات الانتخابية و"الأموال السوداء" إلى توسيع نفوذ المصالح التجارية والثقافية في قضايا كبرى مثل الضرائب والبيئة وتعيين القضاة، فيما ساهمت قرارات المحكمة العليا في تقليص تعريف "العمل الرسمي" وتخفيف القيود على تمويل الحملات، حتى باتت بعض الرشاوى تُعامل كإكراميات مشروعة إذا دُفعت بعد القرار. ومع احتمالية تراجع تطبيق قوانين مكافحة الفساد الأجنبية، يزداد خطر تفاقم الرشوة العابرة للحدود، غير أن هذه الإصلاحات القانونية لن تمس جوهر الأزمة المتمثل في شبكة الولاءات الشخصية والمحسوبية والترهيب التي يستند إليها ترامب في ممارساته.
لا يمكن لرئيس أن يحكم بسلطة شخصية على غرار ترامب إلا إذا غابت القيود السياسية الفاعلة، ورغم أن الدستور الأمريكي يضع ضوابط عبر بنود الأجور الأجنبية والمحلية، فإن فعاليتها مرهونة بمدى التزام الكونجرس والقضاء بتطبيقها، وهو ما تراجع بشكل ملحوظ مع تواطؤ حلفاء ترامب وتوسيع المحكمة العليا لصلاحياته. وهكذا تصبح المشكلة سياسية أكثر منها قانونية، إذ إن ترسخ الفساد في قمة السلطة يضعف مقاومة الاستبداد بمرور الوقت. لذا تقع المسؤولية على المؤسسات كافة ـ من الكونجرس والمحاكم إلى الجامعات والشركات ـ في مواجهة ضغوط ترامب والدفاع عن استقلالها، فالمشهد الأمريكي اليوم يحمل ملامح مأساوية مقلقة، لكنه لم يبلغ بعد نقطة اللاعودة.
•مايكل جونستون باحث مستقل، أستاذ العلوم السياسية الفخري تشارلز أ. دانا، جامعة كولجيت
•نشر المقال في Foreign Affairs
