الذكاء الاصطناعي وإشكالية الكاتب الآلي!!
ليس من قبيل المبالغة القول بأن دخول الذكاء الاصطناعي إلى الصحافة يمثل في رأيي أخطر تحول تعيشه وسائل الإعلام، ليس فقط منذ اختراع الإنترنت، ولكن منذ اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي. كل المخترعات السابقة لم تمس جوهر الصحافة ومحتواها الإنساني، وكانت جميعها -لاسيما شبكة الإنترنت، ومنصات التواصل الاجتماعي- معينات تكنولوجية توفر للمحتوى الصحفي مزيدا من السرعة في النشر، والجودة، والوصول السهل إلى الجمهور عبر منصات متعددة.
ومع التطور المستمر في برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي القادر ليس فقط على متابعة الأخبار، بل كتابة مقالات الرأي، وتزايد حالات نشر مقالات كاملة يعتمد من يضعون أسماءهم عليها على هذه البرامج اعتمادا كاملا خاصة في الصحف العربية؛ أصبح من الضروري مناقشة هذه الظاهرة ومتابعتها، والمطالبة بوضع ميثاق أخلاقي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الكتابات الصحفية.
دعونا نتفق أولا على أننا نواجه ظاهرة حقيقية تلقي بظلالها على صفحات الرأي حتى في صحفنا المحلية، والتي كشفت متابعات بعض الزملاء لها أنها تنشر مقالات مكتوبة بالكامل باستخدام برامج الذكاء الاصطناعي دون مراجعة أو تمحيص للمعلومات التي تقدمها للناس.
واقع الأمر أن جرأة بعض الكتاب على نسبة ما تقدمه هذه البرامج إلى أنفسهم تجعلني أقول إن الحديث عن تنامي استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة، وفي كتابة المقالات الصحفية على وجه الخصوص لم يعد مجرد ترفًا تقنيًا أو فكريًا خاصا بالأكاديميين والباحثين في الإعلام فقط بعد أن أصبح واقعا يفرض نفسه على كتاب ومحرري صفحات الرأي في الصحف. ورغم قدرة هذه التقنيات على توليد مقالات صحفية متقنة خلال لحظات؛ فإنني لا أستطيع أن أخفي قلقي من التبعات الأخلاقية التي يفرضها هذا الواقع الجديد على واقع ومستقبل الكتابة الصحفية. هنا يجب أن أعترف أنني ذهلت عندما قرأت للمرة الأولى مقالات صحفية كتبها أصحابها باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي. النصوص كانت منسقة، ولغتها جيدة، وأسلوبها واضح، لكن بعد مراجعتها مراجعة دقيقة أدركت أنها تفتقد اللمسة الإنسانية التي تميز الكتابة الصحفية. ومن هنا بدأت في الاستعانة ببرامج ذكاء اصطناعي مضادة تكشف بالنسب المئوية حجم استخدام الذكاء الاصطناعي في الأعمال الصحفية المنشورة في الصحف، وعندها أدركت أن القضية لم تعد في قدرة الذكاء الاصطناعي على الكتابة؛ فهذه القدرة هائلة، وتتضخم يوما بعد يوم، ولكن في قدرته على الحفاظ على الثالوث الذي يشكل جوهر الكتابة الصحفية، وهو الذاتية، والصدق، والالتزام الأخلاقي.
ولعل ما يثير القلق أن بعض المؤسسات الصحفية ما زالت تتجاهل التحقق من أصالة المقالات المقدمة للنشر، ليس فقط لكشف الانتحال، ولكن أيضا لكشف مدى مساهمة برامج الذكاء الاصطناعي في كتابة المقال، ناهيك بمصارحة القارئ بذلك. وأزعم أن الصحف التي نشرت بعض المقالات لم تكن تعلم ذلك؛ ولذلك فإنها لم تتعمد إخفاء حقيقة أن المقال مكتوب بواسطة الذكاء الاصطناعي. وبصفة عامة يجب أن تؤمن إدارات تحرير الصحف أن من حق القارئ أن يعرف مصدر النص الصحفي، وتعلن بوضوح متى يكون المحتوى آليًا، ومتى يكون إنسانيًا. ويمثل تجاهل هذا الأمر في اعتقادي خداعًا للقارئ، واعتداءً على حقه في المعرفة.
لقد تعلمت طوال مسيرتي الأكاديمية والعملية أن المصداقية هي رأس مال الكاتب الذي يكتب لجمهور عام. والمعروف أن أدوات الذكاء الاصطناعي تعاني من مشكلة خطيرة فيما يتعلق بالمصداقية؛ كونها تنتج النصوص دون أن تتحقق من صحة المعلومات التي جمعتها من المصادر المتاحة على شبكة الويب. يعني هذا أن الكاتب لا يمكن أن يعتمد على النصوص المنتجة آليًا، بل يجب أن يقوم بدور المراجع المدقق، وإلا تحولت الصحافة إلى ناقل غير أمين للمعلومات.
سألني أحد طلابي بعد أن أعدت إليه مقاله الذي كان منتجا بالكامل بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعي، وطلبت منه إعادة كتابته بأسلوبه الخاص: «لماذا تعترض على المقال رغم أنه يبدو أفضل وأكثر تماسكا مما أكتبه بأسلوبي»؟ إجابتي كانت واضحة: الذكاء الاصطناعي لا ينتج المقال، بل يعيد تركيب ما سبق أن كتبه أناس آخرون. هو بارع في التوليد والتقليد، لكنه يبقى عاجزًا عن خلق المعنى الإنساني. المقالات التي يكتبها قد تبدو كاملة من ناحية الشكل، لكنها دائما تفتقر إلى الرؤية الذاتية التي تميز كل كاتب عن الآخر، والكتابة الصحفية في جوهرها تعبير يجب أن يكون صادقا عن رأي وموقف الكاتب من الحدث أو القضية التي يتناولها، وليست جمعا لكلمات وعبارات ذات معنى.
من الأمور المقلقة في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الكتابة الصحفية قضية الملكية الفكرية. وهنا يطرح السؤال المهم، وهو: من يملك المقال الصحفي الذي يكتبه الذكاء الاصطناعي؟ الكاتب الذي طلب المقال من البرنامج، أم المؤسسة الإعلامية التي نشرت المقال، أم الشركة التي طورت البرنامج؟ هذه أسئلة لم يصل العالم إلى إجابة عنها حتى اليوم، وهو الأمر الذي قد ينذر بفوضى صحفية جديدة لا تقل خطورة عن الفوضى التي سببتها وسائل التواصل الاجتماعي في مسألة حقوق النشر.
لست ممن يقفون ضد الاستخدام الرشيد للذكاء الاصطناعي في الصحافة في الأخبار والتقارير الروتينية وتصحيح الأخطاء الطباعية واللغوية والترجمة، ولكنى ضد استخدامه بطريقة غير أخلاقية في إنتاج المقالات الصحفية، خاصة إذا استخدم لإنتاج مقالات موجهة أو مضللة لخدمة كيانات سياسية أو اقتصادية أو لدعم أجندات خاصة، وهذا ما يهدد بإغراق الصحف بنصوص ومقالات مزيفة يصعب على القارئ التمييز بينها وبين المقالات الحقيقية. إذا حدث ذلك -وهو المتوقع- سوف تصبح مهنة الصحافة على المحك، وتتحول الأدوات الذكية التي تساعد الكُتاب إلى أسلحة فتاكة تهدد حرية الرأي والتعبير.
أعتقد أن الوقت قد حان لوضع ميثاق أخلاقي جديد يواكب التوسع في استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في الكتابة الصحفية يتضمن مبادئ وقواعد واضحة، مثل عدم إجازة نشر أي نص آلي في الصحف من دون مراجعة بشرية دقيقة، والإفصاح بوضوح عن استخدام الذكاء الاصطناعي في النص المنشور، والتحقق من صحة المعلومات قبل النشر، بالإضافة إلى حماية حقوق المؤلف مهما كانت هوية كاتب النص. وفي تقديري أن وضع هذا الميثاق ومتابعة تنفيذه من جانب هيئات تحرير الصحف لم يعد ترفًا، بل ضرورة لإنقاذ مهنة الصحافة من الانزلاق نحو الفوضى. ومن تجربتي الطويلة في تدريس الإعلام أرى أن تبادر الصحف الوطنية -ربما بالتعاون مع جمعية الصحفيين العُمانية، وقسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس- إلى وضع مدونة سلوك جديدة تنظم استخدام الذكاء الاصطناعي في الصحافة، وتضع حدودًا فاصلة بين ما يمكن للآلة أن تفعله، وما يجب أن يظل في إطار الإبداع الإنساني، وتؤكد دور الصحفي مشرفا وناقدا ومراجعا، لا مجرد مستخدم أو مستهلك لما تنتجه الخوارزميات.
في تقديري أن الذكاء الاصطناعي لن يقتل الإبداع الإنساني في الكتابة الصحفية؛ إذ من المتوقع أن يبقى الكاتب البشري هو أساس كتابة الأعمدة والافتتاحيات والمقالات التحليلية والنقدية، خاصة إذا تعاملنا معه -أي الذكاء الاصطناعي- كأداة مساعدة، وليس كبديل، وإذا أحطنا هذا التعامل بسياج من القواعد الأخلاقية التي تحفظ حقوق الكُتاب والقراء والصحف.
أ. د. حسني محمد نصر أكاديمي فـي قسم الإعلام بجامعة السلطان قابوس
