No Image
ثقافة

سارة العولقي.. تصغي لما لا يقال وتمنح الذاكرة شكلا بصريا

24 أغسطس 2025
من مشغل والدتها إلى بينالي البندقية
24 أغسطس 2025

 حوار : بشائر السليمي

في سن صغيرة بدأت سارة بنت أحمد بن فريد العولقي رحلتها الفنية. كانت والدتها -مصورة العائلة- تملك موهبة في التقاط اللحظات العفوية خلال التجمعات. وكانت أيضا مصممة أزياء تشجعهم باستمرار على الإبداع والعمل بأيديهم، فنشأت سارة على مساعدتها في صنع الهدايا، وربط الشرائط، وقضاء الوقت في مشغلها، ذلك المكان الذي وصفته سارة بالملعب الإبداعي بالنسبة لها، وفي الوقت نفسه، تابعت عن كثب عملية بناء فندق «جراند حياة»، حيث قام والدها بتحقيق رؤيته، ونسج إرثه في كل تفصيلة. 

وسط تجارب مبكرة شكلت سارة فهمها للفن والحرفية وسرد الحكايات من خلال التطريز والعمارة، ثم طورت أسلوبها الفني على مر السنين من خلال التجريب المستمر والفضول لاستكشاف وسائط مختلفة. كان الابتكار دائما صميم منهجها إلى جانب حبها العميق للتاريخ والحفاظ عليه، حتى وجدت نفسها في منطقة ما بين الماضي والحاضر، مستلهمة من التقاليد والإرث الثقافي، وباحثة عن طرق لتكريمهما بصيغة معاصرة. 

في هذا الحوار تكشف سارة العولقي أسرارا عديدة عن الفن ودراسة الفن والمعارض الفنية وتجسيد الرمزية في الفن وتحدي التصورات السلبية والكولاج كأسلوب للتعبير. 

Image

لم تبدأ سارة العولقي رحلتها بنية أن تصبح فنانة، تقول: «كان الفن شيئا أحببته بعمق، وكنت دائما منجذبة إليه، لكنني لم أره في البداية كمسار مهني ممكن. عندما حان وقت الجامعة، كنت خائفة جدا من إخبار والدي أنني أريد دراسة الفنون. لذا، قمت بالتسجيل في تخصص مزدوج بصمت -درست التسويق التجاري من أجل أعمال العائلة، بينما التحقت سرا بدراسة الفنون البصرية لنفسي. كان ذلك شيئا فعلته من أجل روحي، وحتى اليوم لم يكتشف الأمر». 

وأضافت: «في الأوقات الصعبة، أصبح الفن وسيلتي للتعبير ومعالجة المشاعر دون الحاجة إلى قول أي كلمة. ذلك الشكل الصامت من التواصل كان قويا بشكل لا يصدق ــ صادق، وخام، وعميق الارتباط. منحني وسيلة للتواصل مع نفسي ومع الآخرين بطريقة تعجز عنها الكلمات». 

في سؤالها عن البيئة التي نشأت فيها وكيف أثرت في عملها، قالت: «كانت عائلة والدتي مليئة بالتعبير، والإبداع، والانفتاح -كانت هناك دائما حركة، ورواية قصص، ومشاعر تملأ المكان. في المقابل، كانت عائلة والدي أكثر تحفظا واتزانًا، مما وفر لي إحساسا بالسكينة. هذا التباين شكل حساسيتي تجاه كل من الصمت والتعبير، وأعتقد أن هذه الثنائية تجد طريقها إلى فني موازنة بين الجرأة والرقة، وبين ما يقال وما لا يقال». 

وهكذا عكست أعمال سارة العولقي غالبا ما لا يُرى، الطاقات الكامنة في الأشياء، والقصص التي تحملها، والأشخاص المرتبطين بها. مشكلة رؤيتها الفنية من القصص القديمة، ومن الثقافات الغنية بالمعنى، ومن التقاليد التي واصلت تعلمها من خلال السفر والاكتشاف، والأماكن الجديدة، والطقوس، وأنماط الحياة المختلفة التي غدت تغذي منظورها باستمرار، وربطت عملها بالتاريخ والفضول معا، وآمنت بأن روح الإنسان، والمكان، والشيء، تبقى حاضرة حتى بعد غيابها، وسعت من خلال فنها تكريم هذا الحضور، واصفة ذلك بالوسيلة التي تمنح الذاكرة والمشاعر والخيوط غير المرئية شكلا ملموسا وخيوطا تربطنا عبر الزمن. 

هل سبق أن أسرتك أعمال فنان معين؟ كان السؤال، فأجابت: «أسرتني أعمال فريدا كالو؛ لأنها رسمت واقعها دون أن تحاول التوافق مع المعايير الجمالية السائدة، فنها خام، وصادق، وشخصي بعمق. وبالمثل، يدهشني السريالي سلفادور دالي بتعقيده الحلمي وخياله الجريء. كما أنني معجبة بشدة بالحرفيين وتفانيهم، وحرفيتهم تعكس مستوى من الإبداع والجهد يلهمني ويشعرني بالاحترام. 

المعارض الفنية 

حول تجسيد التأثير الفني من خلال إقامة المعارض في مدن مختلفة، ترى سارة العولقي أنه يتجسد عبر خلق مساحة للحوار، والتواصل، والتبادل الثقافي. وقالت: «عندما يسافر الفن، يصل إلى جماهير جديدة، ويعرض الناس لوجهات نظر مختلفة، ويدعوهم للتفاعل عاطفيا وفكريا. إنه يساعد على ردم الفجوات الثقافية، ويعزز الفهم، ويمكن أن يُلهم حتى التغيير المجتمعي. وللفنان، إنها فرصة للنمو، وتلقي التغذية الراجعة، وملاحظة كيف يتردد صدى أعماله في سياقات مختلفة». 

وعن توسيع نطاق الوصول إلى الأعمال الفنية خارج الحدود، عددت سارة العولقي طرقا متنوعة منها: المنصات الرقمية (وسائل التواصل الاجتماعي، والمعارض الإلكترونية، والمواقع الإلكترونية)، والمعارض الدولية وأسواق الفن، وبرامج التبادل الثقافي والإقامات الفنية، والتعاون مع فنانين عالميين، والتغطيات الإعلامية والمنشورات الفنية، وترخيص الأعمال الفنية والمنتجات التجارية، والمشاركة في المسابقات العالمية والبيناليات، والشراكات مع المعارض أو القيّمين الدوليين، وإعداد محتوى متعدد اللغات أو بيانات فنية بلغات مختلفة. 

وبينت سارة العولقي مدى إسهام المعارض الفنانين على الازدهار والتواصل مع جمهور أوسع من خلال منحهم منصة لعرض أعمالهم، والتفاعل مع جمهور جديد، واكتساب الاعتراف، والتعلم، وبناء علاقات، واستكشاف سبل جديدة للإبداع والنمو. بالإضافة إلى ردم الفجوة بين الأشكال الفنية التقليدية والمعاصرة من خلال وضعهما في حوار مباشر، وإظهار كيف يستوحي الفنانون المعاصرون من الجذور الثقافية، بينما يعيدون تفسيرها بطرق جديدة تبرز الاستمرارية والتطور، وتمنح الجمهور فرصة لاستكشاف التراث والابتكار معا. 

وحول الكيفية التي تعكس فيها المعارض نسيج التراث الفني العُماني، قالت سارة العولقي: إن ذلك يحدث من خلال عرض الحرف التقليدية، والرموز، والقصص جنبا إلى جنب مع التفسيرات المعاصرة، حيث تُبرز غنى الهُوية الثقافية العُمانية -تاريخها، قيمها، وجمالياتها- مع السماح للفنانين بالتعبير عن كيف لا يزال التراث مصدر إلهام ويتطور في العصر الحديث. 

وفي سؤالها: هل تعتبرين أنه من مسؤوليتك كفنانة أن تسلطي الضوء على النسيج الثقافي العُماني الغني؟ أجابت سارة العولقي: «نعم، بالتأكيد. أشعر بمسؤولية قوية لتسليط الضوء على النسيج الثقافي الغني لعُمان. ولكن إلى جانب ذلك، أؤمن أن من واجب كل فنان أن يتناول القضايا المعاصرة، ويمنح صوتا لما لا يُقال، ويقدّم وجهات نظر جديدة. الفن يمتلك القدرة على التحدي، وطرح الأسئلة، وإثارة النقاش، وهنا يكمن تأثيره الحقيقي». 

برقع الملاعق 

باستخدام عدد كبير من الملاعق الحديدية وخلال شهرين عملت الفنانة سارة العولقي على عملها الفني «البرقع» الذي شارك في بينالي البندقية، عمل تحدى التصورات السلبية وساهم في تصحيحها، تقول العولقية عن ذلك: «من خلال عمل البرقع، يتحدى الفن الصور النمطية ويفتح مساحة للحوار. بإعادة تصور هذا الغطاء من خلال الخامات والرمزية، يدعو المشاهدين لرؤيته كشكل من أشكال الهُوية، والإرث، والاختيار ما يثير النقاش ويعزز الفهم بما يتجاوز المظاهر». 

وفي سؤالها: كيف يقرر الفنان ما يريد تحديه أو تصحيحه في الأساس؟ قالت: «غالبا ما يقرر الفنان ما يريد تحديه أو تصحيحه بناء على مزيج من النية، والتجربة الشخصية، والحدس العاطفي. أحيانا يكون القرار مدروسا، رد فعل على شيء شخصي أو ثقافي معين. وأحيانا ينشأ من التجربة الحياتية أو الرغبة في فهم وجهة نظر أخرى. قد يبدأ الأمر بإحساس، أو انزعاج، أو تساؤل، ويتطور إلى استجابة بصرية لا تهدف فقط إلى التعبير، بل إلى التفاعل، أو المواجهة، أو الشفاء». 

وعن الجزء الأصعب في تجسيد الرمزية في الفن، قالت العولقية: «برأيي، الجزء الأصعب في تجسيد الرمزية في الفن قد يكون في عملية «إلغاء التعلم» -أي التخلي عن التفسيرات الجامدة واحتضان الانفتاح. لكن على الصعيد الشخصي، لا أجد الأمر صعبا؛ بل أشعر أنه يشبه تعلّم لغة جديدة -لغة مكوّنة من الأشكال، والألوان، والخامات. إنها عملية حدسية ومرحة، أشبه بالاكتشاف منها بالقيود». 

وقدمت الفنانة إلى جانب هذا العمل فيلما تم وضع البرقع داخل منزل عُماني تقليدي قديم، حيث تتحرك الكاميرا كأنها روح -تنساب بهدوء عبر المكان، تراقب. تتوقف عند إيقاع امرأة تطحن القهوة، وصدى الحجر وهي تطحن الطحين حسب وصفها. وقالت: «هذه الطقوس اليومية، التي غالبًا ما يتم تجاهلها، يتم التقاطها في سكونها وقوتها الهادئة. القناع -جريء وملفت- يبدو في البداية خارج السياق، لكنه في الواقع متجذر بعمق في هذا المكان المتواضع. يتحول إلى رمز للقوة، والكرامة، والروح التي تشترك فيها جميع النساء». 

«الكولاج» 

الكولاج أحد الأعمال الفنية التي تركز عليها الفنانة سارة العولقي وتتخذها وسيلة للتعبير، وعما يدفعها لاختيار الكولاج كوسيلة للتعبير، وما تجده في هذا الوسيط ولا تجده في غيره، قالت: «الكولاج سريع وحدسي، يساعدني على تجاوز الحواجز الإبداعية، والتجريب بجرأة، والهروب إلى خيال بصري يمكنني من بناء حكايات من خلال الصور». وأضافت: «إنها مزيج من الثلاثة -أحيانًا أبدأ بسرد واضح في ذهني، وأحيانًا تكون العملية حدسية أو حتى تأملية. أترك المواد ترشدني، وأسمح للمعنى بأن يتكشف بشكل طبيعي مع اجتماع العوالم المختلفة». 

بينالي البندقية 

وصفت سارة العولقي مشاركتها في بينالي البندقية بالشرف العظيم، وقالت: «كانت فرصة لتمثيل بلدي وتراثي على منصة عالمية. كان مؤثرًا للغاية أن أشهد الفضول والدهشة في وجوه الناس، وأن أشارك في محادثات عميقة، وأكوّن روابط قائمة على الإبداع. هناك شيء قوي في التواصل من خلال الفن -أن ترى داخل عالم شخص قبل أن تعرف قصته. كانت لحظة فخر لا تُنسى بحق». 

وعما جعل هذه التجربة مميزة على المستوى الشخصي، قالت: «ما جعل هذه التجربة ذات مغزى هو أن يُعترف بك من خلال شيء تحبه بشدة. إنه شعور قوي -أن تعلم أن العمل الذي تصبّ فيه قلبك يلقى صدى لدى الآخرين. بالرغم من الشكوك والعقبات في الطريق، ذكّرتني هذه التجربة بأنه لا بد أنني على الطريق الصحيح. كن صادقا مع نفسك، وواصل السير، واثقا فالله يرى كل جهد». 

Image