هل تمتلك جيناتنا ذاكرة زمنية؟
20 أغسطس 2025
20 أغسطس 2025
د. معمر بن علي التوبي -
ترشدنا المنطلقاتُ الفلسفية والعلمية إلى حقيقة مفادها أننا جزءٌ من الصورة القديمة للحياة ومكوناتها؛ فتشمل أفكارنا وأنماط حياتنا وتفاعلاتنا البيولوجية ويصل التأثير الذي يربط حاضرنا بالماضي بتحديد شكل جيناتنا التي تأتي بمنزلة الصندوق الأسود لحياتنا؛ فعن طريق جيناتنا، تتحدد كثيرٌ من أمراضنا المستقبلية المحتملة، وتتكشف لنا مزاجاتنا النفسية وتقلباتها؛ فيتصل كثيرٌ منها -وفقَ المنهج العلمي الحديث- بتأثيرات قديمة نرثها من أسالفنا البشر؛ فنتساءل: هل يمكن لجيناتنا أن تمتلك ذاكرة زمنية تمتد إلى ماضٍ لم نكن فيه جزءا من الحياة؟ وبمعنى آخر: هل نحن امتداد غير واعٍ لزمن قديم لا ندرك مكوناته إلا عبر جيناتنا التي تخزّن كل شيء وتتفاعل بأنانية تفقدنا بعض الإرادة أو كلها؟ ولعلّ ذلك يجرّنا إلى سؤال فلسفي أعمق يكثر فيه الجدل الفلسفي والعلمي: هل نملك الإرادة الحرة أم أن جيناتنا وذاكرتها الزمنية تملك زمام قرارتنا في الحياة؟
الفلسفة أول خطوات فهمنا
لذاكرة الزمن الجينية
قبل أن نخوض في الشق العلمي وجدلياته الكثيرة، نتوقف -بشكل مقتضب- عند زاوية فلسفية نحاول بواسطتها أن نحدثَ تقاربا مع منطلقات فهمنا لذاكرة الجينات الزمنية -المفترضة- التي نؤمن بأنها بوابة المعرفة الأولى عبر شرارة الدهشة وازدحام الأسئلة؛ إذ مع المطارحات الفلسفية وتدافعاتها أضحى من السهل أن نتجاوز معوقات تناقضات العقلانية مع التجريبية العلمية؛ فصار من اليسير أن يقبل بعضنا بوجود «الميتافيزيقيات» سواء بطابعها الفلسفي العقلاني المحض أو بطابع علمي مستحدث مثل الذي أحدثته تداخلات فيزياء الكوانتم؛ فنقبل إعمال العقل والعلم معا في عملية فحص ظواهرها دون أن القطع بضرورة القطيعة المطلقة بين العلم التجريبي وهذه الظواهر غير المفسّرة؛ فكم من الظواهر والمشاهد التي كانت مركونة إما في خانة «الوهم الشيطاني» وخوارق فوق الطبيعة أو «العلم الزائف»؛ فيكون إلقاء مثل هذه الأحكام أسهل عندما يستعصي تفسير هذه الظواهر، ولا يجد الإنسانُ سبيلا إلى فهمها وتأصيل ماهيتها وأسرارها عن طريق العلم وأدواته، وأقرب مثالا إلى هذه الظاهرة: محاولات الإنسان الأول المعقّدة في فهم أسرار النار والشمس والكواكب وبحثه عن مخرج منطقي يخفف من دهشته التي جمعت بين الخوف والوهم، ونجد لهذه الظواهر والمظاهر وجودا حتى زمن قريب مثل ما حدث من جدل مع ثورة الهاتف الذي جعل من بعض المجتمعات أن تتوهمه شيطانا يتكلم. في عموم هذه القضايا والظواهر الطبيعية خصوصا مع تفاعل الإنسان الأول معها؛ فإنها -بشكل بدهّي- تثير جدلا يأخذ طابعه الخرافي في أول مراحله، ثم يأخذ مسلكه الفلسفي المتعقّل؛ فيعبر بعدها إلى معتركات العلم وتجاربه المشاهدة؛ ليتدافع مع قوانينه ومحطاته التدريجية؛ ليصل إلى محطته التنظيرية القطعية، وهذا ديدن العقل البشري وإطاره الحضاري الفطري، ومبدأ مشروع يقظة العقل البشري وصناعة معارفه؛ فنرى -عبر نافذة تاريخ العلم- جموحَ العقل وانتفاضاته التي تسوقه إلى تطوير معارفه وأدواتها؛ لنجد في يومنا مخرجات هذا التدافع والثورة العلمية في تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، وفي خضّم موضوع مقالنا، نفطن أيضا إلى قضيتي الوعي والإرادة الحرّة وتفرعاتهما التي يصل بعضها بمادة موضوع مقالنا «الجينات»؛ فيبرز السؤال: لماذا لا نفترض وعيا وذاكرة خاصة بالجينات؟ ونسأل كذلك: لماذا هذا الافتراض، وما دواعيه وضروراته العلمية والفلسفية؟ وماذا يمكن للعلم أن يرينا من شواهد مؤيدة أو رافضة لهذا الافتراض؟
المقاربات العلمية
لذاكرة الجينات الزمنية
يرشدنا علمُ الأحياء، ويؤكد لنا بشكل علمي قاطع أننا بصفاتنا البيولوجية -التي نحن عليها- نتاج تأثير جيني موروث من والدينا، وقبله من أجدادنا، وهذا ما يسهم في تحديد كثير من صفاتنا مثل لون البشرة، والعيون، والشعر، وبعض الأمراض، والقوة، والصحة، ويمتد الأمر إلى السمات النفسية، ومكوناتها الكيميائية والهرمونية. وتخزّن كل هذه الصفات على شكل بيانات، وشفرات جينية في أجسادنا، وكأنها تتصل بخط زمني مدرك لديها بماضي أسلافنا من البشر. ويمكن أن يقحمنا هذا في نظرية التطوّر التي تجاوزت كثيرا من معوقاتها السابقة سواء التي أقحمت إليها باسم الدين، أو عن طريق السفسطات الفلسفية المادية المُنكِرة لوجود الإله «الخالق»؛ فأُعِيدت إلى رحم العلم المحض البعيد عن التداخلات الفلسفية المادية أو الدينية، فأمكن لكثير من علماء الأحياء أن يطلقوا عليها نظرية التطوّر الموجّه بمعنى أنها نظرية تستند إلى قانون طبيعي في الحياة أوجده الخالق؛ ليكون بمثابة القانون الخاص بعالم الأحياء، فيُعنى بتطوير الحياة، وتفريعها لتكون أمما وأصنافا متعددة تتطور بشكل مستقل من أنواعها الخاصة. فالإنسان كائن متطور من بشر سابقين، ومن يقرأ في كتابي «هكذا نتطور» سيجد شرحا مفصلا لهذا القانون الطبيعي الأشبه بقوانين الحياة والكون الأخرى مثل قانون الجاذبية.
تستدعي كلُ هذه الإشارات العلمية فتحَ جبهة علمية تناقش علاقة الجينات بالماضي، وقدرتها على اكتساب المعلومات القديمة، والاحتفاظ بها في الزمن الحاضر، فتنقل تجارب الإنسان القديم، وسماته الدقيقة إلى الإنسان الحاضر؛ لتتجاذبنا مثل هذه الإشارات بأننا أقرب إلى الافتراض بوجود ذاكرة زمنية في جيناتنا، ولكننا لا نملك قدرةً على تحديد ماهية هذه الذاكرة وقدراتها، ويمكن أن نستدل بدراسة بعنوان « Parental olfactory experience influences behavior and neural structure in subsequent generations » «تجربة الشمّ الأبوية تؤثّر في السلوك والبنية العصبية لدى الأجيال اللاحقة» من تأليف:( Dias BG & Ressler KJ )-نُشرت في عام 2014 في مجلة «Nature Neuroscience»- تشير إلى إمكانية انتقال تجارب الوالدين، والأسلاف النفسية -مثل الخوف المرتبط بروائح معينة- إلى الأبناء عبر تغيّرات جينية بطريقة تنظيمية لا تتعلق بتسلسل الحمض النووي ما يُعرف بالوراثة غير الجينية. كذلك تظهر دراسة بعنوان « Allele-specific FKBP5 DNA demethylation mediates gene–childhood trauma interactions» «نزع مثيلة الـDNA على مستوى الأليل في جين «FKBP5» يمثّل وسيطًا في تفاعل الجين مع صدمات الطفولة»، من تأليف: ( Klengel, T., Mehta, D., Anacker, C. et al) -نُشرت عام 2013 في مجلة «Nature Neuroscience»- عن وجود آلية جزيئية واضحة تبيّن امتداد الصدمة النفسية في الطفولة إلى النظام الجيني عبر التفاعل مع تركيب جيني معين؛ فتُحدث تغييرات وراثية غير جينية يمكن أن تؤثر على تنظيم التوتر مدى الحياة، ما يزيد من احتمال الإصابة باضطرابات نفسية في المستقبل. استفاد العلماء من هذه الخاصية الوراثية لدى الحمض النووي؛ لتتبع ماضي الإنسان -بجانب مستقبله كما أشرنا آنفا- عن طريق معرفة جذوره العرقية، وتحديد أسلافه، وهذا ما يعرف بتحليل الحمض النووي الذي يمكن بواسطته معرفة بعضٍ من الذاكرة الزمنية الخاصة بماضي الإنسان ومستقبله -غير الواعية لدى الإنسان- المخزّنة في نظامنا الجيني.
في محاولات أكثر إثارة أظهرت دراسة بعنوان « How close are we to storing data in DNA?» « ما مدى اقترابنا من تخزين البيانات في الحمض النووي؟» من تأليف: ( Gervasio, Joao Henrique Diniz Brandao, et al) -نشرتها مجلة « Trends in Biotechnology » عام 2024- إمكانية استعمال الحمض النووي (DNA) ليكون وسيلةً لتخزين البيانات من حيث الجوانب التقنية والاقتصادية. وأسدلت الدراسةُ الستارَ على إجراء بعض التطبيقات الواقعية في هذا المجال مثل تعاون «Netflix» مع شركة Twist Bioscience لتخزين مسلسل «Biohackers» داخل الحمض النووي؛ ليثبت أن الفكرة قابلة للتطبيق عمليًا. تفتح مثلُ هذه الدراسات نوافذَ جديدة نرى بواسطتها عالمنا الجيني المعقّد والمليء بالأسرار، وأهمها قضية احتمالية وجود الذاكرة الزمنية الخاصة بالنظام الجيني، وبالتالي احتمال أن يمتلك نظامنا الجيني وعيه الخاص الذي يرتبط بالوعي الكوني الكلّي، وهذا ما يدعو إلى التساؤل مجددا عن تأثير هذه العوامل بقضية الإرادة الحرة من عدمها عند الإنسان، وهنا نعود إلى مطارحتنا الفلسفية المدعومة بسردياتها العلمية؛ فنرى أن -من منطلق الرأي النسبي- النظام الجيني -بفرضية امتلاكه للذاكرة الزمنية، والوعي المستقل- ليس بمعزل عن نظامنا الإنساني الواعي؛ فيشكل كلٌ من النظام الجيني، وبقيةُ المنظومة الإنسانية -بما تشمله من عناصر بيولوجية وعقلية- وحدةً واحدةً غيرَ متجزئة، ولا يمكن لكل نظام أن يعمل منفصلا عن الآخر. وهذا ما يُرجِعنا إلى مفهوم الوعي الكوني الكلّي الذي يتفرّع منه مفهوم «العقل الممتد» «Extended Mind» -تزعّم مشروع نظرية العقل الممتد كل من العالمين «آندي كلرك» و«ديفيد شالمرز» عام 1998- الذي بات طرحا علميا مقبولا لدى بعض الأوساط العلمية من أبرزهم عالم الفيزياء البريطاني «روجر بنروز» -الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء 2020-.
ماذا يمكن أن نستنتج من
التجاذبات الفلسفية والعلمية؟
برغم ما أوردناه -أعلاه- من سياقات فلسفية، وإشارات علمية معنية بعلاقة الجينات بالذاكرة الزمنية؛ فإننا نجدها ما تزال في حيّز الذاكرة الوراثية البيولوجية، ولا يمكن أن ندّعي قطعا بتأكيد وجود ذاكرة زمنية مطلقة في الجينات رغم كل المقاربات العلمية والفلسفية التي سقناها. ومع ذلك؛ فإنه مع التطورات الرقمية مثل ثورة الذكاء الاصطناعي سيكون من السهل أن نقترب أكثر إلى تقريب فهمنا للصورة العلمية للنظام الجيني، وفك شفرة الذاكرة الزمنية. ولعلّ ذلك آيل إلى التحقق بوجود خوارزميات ذكية ذات سرعة ودقة عالية في تحليل آلية عمل الجينات، وتفاعلها الزمني والمعرفي. سبق لي التصريح بأنني مع المذهب المؤيد لفرضية الوعي الكوني الذي يتصل بالوعي الفردي للإنسان الذي يحتاج إلى تشريح فلسفي وعلمي مستقل يتصل بعضها بالظواهر (الكوانتمية)، ولعلّ ذلك يكون في مقال مستقبلي. نجدد افتراضنا بأن الوعي الكوني مرادفٌ لمفهوم العقل الذي لا يمكن أن نحدّ جغرافيته المكانية بمساحة ضيّقة مثل دماغ الإنسان؛ إذ تفترض بعض السرديات العلمية الحديثة امتداده خارجا إلى الكون الخارجي الفسيح حيثُ تتفاعل الأفكار، وتراكماتها الزمانية كما تشرحها نظرية «العقل الممتد» التي أشرنا إليها في سطور سابقة، وهذا ما يؤيد افتراضنا بأن جيناتنا يمكن أن تكون جزءا من منظومة الوعي والعقل الكلّي الكبير. سنحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب العلمي لأجل أن نصل إلى إثبات هذه الفرضيات، ولا أستبعد أن نرى الدراسات التي يمكن أن تحل مثل هذه الألغاز؛ فتنقل هذا النوع من القضايا الجدلية إلى دائرة اليقين العلمي.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
