تلاشي الخطوط الفاصلة بين السياستين النقدية والمالية

18 أغسطس 2025
18 أغسطس 2025

ترجمة : قاسم مكي-

على مدى عقود تتّبع سياسةُ الاقتصاد الكُلِّي في بلدان الاقتصادات المتقدمة بشكل عام تقسيما للمسؤولية مفهوما على نطاق واسع؛ فإدارة الدورة الاقتصادية من شهر إلى شهر وخصوصا التضخم هي مهمة البنوك المركزية. وباستثناء فترات التراجع الحاد للاقتصاد مثلما حدث في عام 2008 وعام 2020 تمتنع وزارات المالية عن محاولة إدارة الطلب (الإنفاق) الكلي للاقتصاد، بل تركز بدلا عن ذلك على محاولة تثبيت أو خفض معدل الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي. (سياسة الاقتصاد الكلي هي الإطار العام للسياسة الاقتصادية الحكومية وتهدف إلى تأمين استقرار ونموِّ الاقتصاد، وهي تشمل أساسا كلا من السياستين النقدية والمالية. السياسة النقدية من اختصاص البنك المركزي، وهي مجموعة الإجراءات التي يتخذها البنك لإدارة عرض النقد بما في ذلك تحديد سعر الفائدة؛ بهدف التحكم في التضخم والنمو. أما السياسة المالية فاختصاص وزارة المالية. ويُقصَد بها قرارات الإنفاق، والإجراءات الضريبية التي تتخذها الوزارة؛ للتأثير في نمو الاقتصاد، وتوزيع ثمراته- المترجم.)

الشيء المفترض في بلدان العالم الغني الآن هو أن يتولى البنك المركزي المستقل وضع السياسة النقدية؛ بهدف الوصول إلى سعر الفائدة المستهدف والمعلن. وفي حين توجد استثناءات قليلة لهذا الوضع الافتراضي مثلما هي الحال مع هدف سعر الصرف الثابت في الدنمارك؛ أصبحت مثل هذه الترتيبات شائعة باطراد منذ منتصف التسعينيات. (في حالة الدنمارك العملة الوطنية مربوطة باليورو ضمن نطاق تغير محدود. والبنك المركزي الدنماركي يرفع أو يخفض سعر الفائدة في اتِّساق مع سياسة البنك المركزي الأوروبي- المترجم). لكن هل يمكن أن تستمر هذه الترتيبات في العمل بسلاسة في وقت يشهد ارتفاع الدين الحكومي؟

طوال الفترة الممتدة من الخمسينيات والى الستينيات وفي حالات عديدة حتى السبعينيات والثمانينيات كانت الأشياء أقل وضوحا. فالسياسة المالية اعتُبرت على نطاق واسع الأداة الافتراضية لإدارة التقلبات في دورة الأعمال. وفي معظم البلدان نادرا ما كانت السياسة النقدية مستقلة (نظريا وعمليا) عن الحكومة المركزية. وفي حين كان وضعُ أسعار الفائدة في أحايين كثيرة متعلقا بالحفاظ على قيمة أسعار الصرف الخارجي إلا أن واضعي السياسة النقدية ظلوا يراقبون باستمرار وبعين يقظة أعباء الدين الحكومي.

هذه الأيام لا يُفترض أن تفكر البنوك المركزية في أثر قرارات سياستها النقدية على تكاليف الدين الحكومي. لكن قرارات سعر الفائدة لديها تأثير مادي لا يمكن تجنبه على عبء الدين الحكومي. فرفع أو خفض أسعار الفائدة لبلوغ معدل تضخمٍ مستهدَف يرفع أو يخفض في نهاية المطاف وعبر سوق السندات الحكومية تكاليف خدمات الدين لدافعي الضرائب.

من المؤكد أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مدرك لهذا كما يبدو؛ فهو يلجأ بانتظام إلى وسائل التواصل الاجتماعي لتوبيخ بنك الاحتياطي الفيدرالي على عدم خفض أسعار الفائدة، وتوفير «تريليونات الدولارات» من مدفوعات الفائدة للحكومة كما يقول.

في الحقيقة؛ إذا تركنا جانبا ضجيج البيت الأبيض الذي كثيرا ما يكون عاليا سنجد العلاقة بين السياسة النقدية والتمويل الحكومي أكثر تعقيدا إلى حد بعيد اليوم قياسا بحالها في أواخر التسعينيات أو العشرية الأولى من هذا القرن.

فالجولات المتتالية من التيسير الكمي عقب الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009 نتج عنها احتفاظ العديد من البنوك المركزية الرئيسية بنسبة كبيرة من إجمالي ديون حكومات بلدانها مع توسيع ميزانياتها بأمل تحفيز النمو والتضخم. واتضحت صعوبة إنهاء تلك الميزانيات المتضخمة (من خلال إعادة بيع السندات الحكومية إلى الأسواق عبر عملية التشديد النقدي) وسط انفجار الاضطرابات في أسواق السندات.

آخر مرة بلغت فيها معدلات الدين الحكومي مستوى ارتفاعها الحالي كانت في العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة. وقتها كانت البنوك المركزية خاضعة لما أصبح يعرف بالهيمنة المالية (على السياسة النقدية)، وذلك بتغليب دعم إدارة الموازنة العامة على المخاوف من ارتفاع التضخم. وكان ذلك كله جزءا لا يتجزأ من حزمة أوسع من السياسات التي يُعبر عنها الآن بمصطلح «القمع المالي»، وهذا الأخير يعني سعي الحكومة (إجرائيا) لتوجيه رأس المال نحو تمويل اقتراضها بأسعار فائدة حقيقية متدنية أو سلبية في أحيان كثيرة.

عمليا؛ كانت سياسةُ القمع المالي التي استمرت لعقود ضريبةً على المدخرين، ونتج عنها أيضا سوء تخصيص لرأس المال. كما أسهمت بالتأكيد تقريبا في ارتفاع التضخم إبان السبعينيات، لكنها كسياسة لإدارة الدين كانت ناجحة بدرجة كبيرة. فسعر الفائدة الحقيقي للدين الحكومي كان سلبيا في أكثر من نصف الفترة بين عامي 1945 وغطى الجزء الأكبر من الخفض الكبير في معدلات الدين حول بلدان العالم المتقدم.

منذ تدشين سياسة استهداف التضخم ارتفع معدل الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي في اقتصادات رئيسية عديدة إلى أكثر من الضعف. وبافتراض ثبات كل العوامل المؤثرة الأخرى؛ كلما زادت الديون المتراكمة تعاظمَ أثر التغيرات في أسعار الفائدة على الموازنات الحكومية وفي النهاية على دافعي الضرائب.

ربما كان من الممكن للبنوك المركزية وضع سياسة نقدية بدون القلق من تبعات إدارة الدين لوزارات المالية قبل 20 عاما، لكن ذلك صار أكثر صعوبة الآن. وإذا كانت العودة الكاملة إلى القمع المالي في أعوام الخمسينيات والستينيات مستبعدة فكذلك أيضا العودة إلى الفصل الدقيق بين السياستين النقدية والمالية كما في سنوات التسعينيات والعشرية الأولى. وستكون الفوارق بينهما غير واضحة لبعض الوقت.

دانكان ويلدون مؤلف كتاب « الدم والكنز: اقتصاديات الحرب من عهد الفايكِنج إلى أوكرانيا.»

الترجمة عن الفاينانشال تايمز