استطلاعات الترابط الاجتماعي في عُمان
يمر العالم اليوم بالعديد من المتغيرات السياسية والاقتصادية التي انعكست على التنمية البشرية، وقدرة المجتمعات على التنمية الاجتماعية، وتحقيق الرفاه؛ وبالتالي واجهت الكثير منها تحديات عدة في مجال التفاوت الاجتماعي، والقدرة على مواجهة الصعوبات المعيشية بما أثَّر بطرائق مباشرة أو غير مباشرة على أنماط الحياة، والترابط الاجتماعي.
فلقد عانت المجتمعات خلال الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية، أو حتى تلك التي تمر بالكوارث البيئية من إشكالات اجتماعية تمثَّلت في الفجوات بين فئات المجتمع، وعدم المساواة التي ظهرت في تفاوت مستويات المعيشة، وتعطُّل المضي في تنمية القدرات البشرية، والعجز عن ترسيخ مفاهيم التماسك الاجتماعي وتأصيل مبادئ المواطنة القائمة على التشارك والتعاون؛ وبالتالي فإن هذا العجز، وذلك التعطُّل انعكسا على العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع.
يخبرنا التقرير الاجتماعي العالمي للعام 2025 (إجماع سياسي جديد لتسريع التقدم الاجتماعي) الصادر عن الأمم المتحدة أنه في ظل هذه الأزمات والتغيرات والتقلبات الموصوفة بعدم اليقين فإن (عدم المساواة وانعدام الأمن والثقة العميقة منتشرة في جميع أنحاء العالم)؛ حيث يكافح الكثير من أجل تغطية متطلبات معيشتهم اليومية، ويخسرون في مقابل هذا السباق واللهاث من أجل لقمة العيش العديد من متطلبات الاستقرار الاجتماعي بما يعانونه من مشاعر الإحباط وعدم الأمان.
يقدم هذا التقرير ثلاثة مبادئ أساسية لتعزيز التنمية الاجتماعية هي (الإنصاف، والأمن الاقتصادي، والتضامن)؛ إذ يعاني ما يقرب من 60% من سكَّان العالم - حسب التقرير– من تحديات اقتصادية، ويكافحون للحصول على الإنصاف الاجتماعي، خاصة في تلك المجتمعات التي تواجه صراعات وتهديدات وأزمات متصاعدة، إضافة إلى الصدمات المناخية والكوارث التي أدت إلى تشرُّد الكثير من الناس أو على الأقل هجرتهم من مناطقهم إلى أخرى، ليعيشوا في حالة من عدم الاستقرار الاجتماعي.
ولأن الترابط الاجتماعي والتماسك متغيِّر أساسي للحوكمة الاقتصادية؛ فإنه يعكس قدرة أفراد المجتمع على التواصل والمشاركة الفاعلة في التنمية المجتمعية؛ وبالتالي قدرتهم على تأسيس مجتمع ذي تأثير إيجابي قادر على تحقيق أهدافه، وإحداث تطورات وتغيُّرات على مستوى الرفاهية المجتمعية، والتفاعل مع المعطيات المستجدة، والاستعداد للتحديات مع القدرة على الصمود والتحدي، والتدخُّل الواعي المتوازن.
ولعل ما تقدمه عُمان لأفراد المجتمع من إمكانات في مجال الحوكمة الاقتصادية سواء أكان على مستوى العمل، أو أنظمة الحماية الاجتماعية، وتوفير سبل الرفاه خاصة في المنظومات الصحية والتعليمية؛ فإن استطلاع (الترابط الاجتماعي بين العمانيين لعام 2025) في دورته الثانية الصادر في يونيو الماضي عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات- يكشف مشاعر الترابط المتبادل في العلاقات الاجتماعية في المجتمع العماني ضمن ثلاثة محاور تبدأ بالأسرة الصغيرة، والترابط بين الأقارب، وبعدها رصد الترابط بين أفراد المجتمع بشكل عام؛ إذ يركز على العلاقات الأسرية والمجتمعية بُغية قياس مستوى الترابط الذي يعكس المستوى المعيشي والأمن الاجتماعي في حياة الأفراد.
حيث رصد مؤشر الترابط الاجتماعي في عُمان أن 88% من العمانيين يرون أن المجتمع العماني مترابط اجتماعيا، وأن 95% من العمانيين يشعرون بالترابط الاجتماعي بين أفراد الأسرة، و 88% من أفراد المجتمع يشعرون بقوة علاقتهم بين الأقارب، في حين أن 68% يشعرون بالترابط المجتمعي - حسب التقرير -، الأمر الذي يكشف المستوى المعيشي، وقدرة الأفراد على العمل من أجل تحسين مستوى معيشتهم بما ينعكس على الاستقرار الأسري والمجتمعي.
اللافت في هذا التقرير هو ذلك التقدم الذي رُصد في العمانيين الذين يرون أن المجتمع العماني مترابط اجتماعيا عام 2025 مقارنة بما رصد في عام 2023 حسب المحافظات؛ فجميعها أحرزت ارتفاعا متفاوتا في هذا المؤشر بلغ أعلاه في محافظة مسندم (91%)، والأمر نفسه في نسب العمانيين الذين يشعرون بالترابط الأسري داخل المنزل في عام 2025 مقارنة بما كان في استطلاع عام 2023؛ فقد كانت النسب عالية جدا أدناها في الوسطى (92.5%).
إن النسب العالية التي كشفها الاستطلاع تقدِّم صورة واضحة لما يمثله هذا المؤشر في ضمان الأمن الاجتماعي والاستقرار المجتمعي الذي تتميَّز به عُمان، وسعي الدولة والأفراد إلى إيجاد بيئة صحية اجتماعيا تسودها قيم العدالة والمساواة والتضامن والأمن الاقتصادي، بما يمكِّن أفراد المجتمع من تطوير أنماط حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، ويضمن استقرارهم الاجتماعي وحياتهم الآمنة.
ولعل مثل هذه الاستطلاعات تقدِّم مؤشرات مهمة عن تلك العلاقات الأسرية التي طالما تعرَّضت للتصدع والهشاشة إذا لم يُحرص على توطيدها وتنميتها ورعايتها، خاصة تلك العلاقات التي تربط الأبناء بوالديهم وأخوتهم وأقاربهم؛ حيث يكشف التقرير أن نسبة العمانيين الذين يشعرون بقوة علاقتهم مع أبنائهم بلغت (91.8%)، وأن (92.6%) من العمانيين في الفئة (50+) سنة يشعرون بقوة علاقتهم مع أبنائهم، كما أن (72.7%) يلجؤون إلى فرد من أفراد الأسرة عند مواجهة مشكلة ما، وقد كانت الفئة (18-29) النسبة الأعلى بينهم؛ حيث بلغت (80.5%).
فمثل هذه النسب تقدِّم أساسا مهما للباحثين في علوم الاجتماع والعلوم النفسية، إضافة إلى أهميتها في العلوم الاقتصادية بما لها من جدوى في الكشف عن مفاهيم المجتمع العماني وقيمه، وقدرته على الصمود في وجه المتغيرات والمشتتات المتعددة على المستويات التقنية والفكرية والاقتصادية، والمتغيرات والتحديات التي تعج بها المنطقة والعالم. إن مستويات الترابط الاجتماعية ومعايرته بآفاق التنمية في البلاد، ودراسة انعكاساتها على الأهداف الوطنية تقدِّم رؤية واضحة للتنمية البشرية في عُمان، وتعكس وعي المجتمع وأفراده بأهمية العلاقات الاجتماعية في ظل التصدُّع الذي يواجه الكثير من مجتمعات العالم.
إن الروابط الاجتماعية ذات أهمية كبيرة للأمان الاجتماعي في الدولة، وتحقيق التضامن والتجانس الاجتماعي الذي يؤسِّس النسق الفكري وفق معايير وثوابت الثقافة والهُوية الوطنية، ويعكس سيرورة التنشئة الاجتماعية التي تربى عليها المجتمع منذ القدم على الرغم من المتغيرات المتسارعة؛ فحياة العلاقات الاجتماعية ونسقها المستمر تقومان على الدوام والصمود اعتمادً على قيم الاندماج والانتماء؛ وبالتالي فعل المواطنة الذي يقوم على التشارك والعطاء والتفاعل في سبيل خدمة المجتمع.
فالترابط المجتمعي أساسا يكشف الحرص الدائم من قبل الدولة حكومة وشعبا؛ من أجل ضمان تحقيق الأمن المجتمعي والاستقرار من ناحية، والسعي من أجل تحقيق مفاهيم الحماية الاجتماعية، وبناء مجتمع قائم على تساوي الفرص والعدالة في تقديم الخدمات الصحية والتعليمية والتدريبية والاجتماعية، بل يقدِّم أيضا أنماط الحِراك الاقتصادي، وسعي أفراد المجتمع إلى تحسين مستوياتهم المعيشية بما يحقق رفاههم الاجتماعي؛ وبالتالي الاستقرار والترابط.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
