لماذا اعترفت روسيا بطالبان؟
في وقت سابق من الشهر الحالي، وفي خطوة جاءت مفاجئة للبعض، اعترفت روسيا رسميا بحكم طالبان في أفغانستان. وقد جاء القرار انعكاسا لاستراتيجية جيوسياسية محسوبة وليس نتيجة إقرار أيديولوجي. وبالتعامل مع طالبان، تهدف روسيا إلى تأمين مصالحها في آسيا الوسطى وجنوبها، ومواجهة النفوذ الغربي، وإحلال الاستقرار في المنطقة التي طالما اعتراها التطرف والاضطراب.
منذ انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان سنة 2001، وروسيا تسعى إلى ملء الفراغ الجيوسياسي، جاعلة من نفسها لاعبا محوريا في الأمن الإقليمي. والواقع أن موسكو باعترافها ببقاء طالبان في السلطة في المجتمع الأفغاني قد بدأت التعامل مع الحركة منذ فترة مبكرة ترجع إلى عام 2016. وفي أبريل رفعت روسيا تصنيف طالبان الإرهابي ممهدة الطريق نحو علاقات أعمق. ولقد كان الاعتراف الرسمي هو الخطوة التالية منطقيا، فبات الآن علم الإمارة الإسلامية الأبيض والأسود يرفرف على سفارة أفغانستان في موسكو.
وتداعيات هذه الخطوة تتجاوز كثيرا المسألة الرمزية. فبالاعتراف بطالبان حكومة شرعية في أفغانستان، تكون روسيا قد انتقلت من التعاملات غير الرسمية إلى العلاقات الرسمية بين دولة ودولة. وهذه الخطوة ـ التي يرى البعض في موسكو أنها تأخرت أكثر مما ينبغي ـ تستهل العديد من الامتيازات الاستراتيجية.
فالأمن يبقى من أهم الأمور التي تشغل روسيا. وخلافا لداعش والقاعدة، لم يشترك الطالبان في نشاط إرهابي معاد لروسيا، مما جعل موسكو تنظر إليهم بوصفهم كيانا مستقلا. غير أن الكرملين يخشى من امتداد التطرف من أفغانستان إلى آسيا الوسطى، وبخاصة الجمهوريات السوفييتية السابقة من قبيل طاجيكستان وأوزبكستان، حيث يستمر نشاط جماعات من قبيل الدولة الإسلامية في ولاية خراسان.
ويمتد التهديد حتى يجاوز آسيا الوسطى. فقد نفذت جماعة الدولة الإسلامية في ولاية خراسان اختراقات في أوساط العمال الفقراء المهاجرين من آسيا الوسطى إلى روسيا، وكثير منهم قد جاء من طاجيكستان، وهم جالية يبلغ عدد أفرادها حوالي 1.3 مليون نسمة. وكان تطرف الطاجيك هو السبب في هجوم عام 2024 الإرهابي على مبنى بلدية كروكس وكان ذلك الحادث تذكيرا صارخا بالمخاطر التي يشكلها التطرف الجامح.
من جانبها تنظر طالبان إلى تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان باعتباره الخطر الأساسي على حكمهم. وقد حققوا من قبل نجاحا نسبيا في منع الجماعة من الظفر بمعقل إرهابي لها، بعد أن تحقق لها ذلك لفترة عابرة من عام 2021. غير أن تطور تنظيم الدولة الإسلامية في ولاية خراسان إلى أن أصبح فرعا إرهابيا عالميا لا يقلل من خطره، وذلك ما تبين من هجمات عام 2024 من موسكو إلى كرمان إلى إيران.
وبسبب تلهفهم الشديد على الشرعية الدولية، قد يثبت الطالبان أنهم شركاء راغبون في مكافحة الإرهاب. وقد ينجح الاعتراف الرسمي في مأسسة التعاون في هذا الصدد، وموسكو ـ بأجهزتها الأمنية المعروفة بالارتياب ـ قد خلصت إلى أن العمل مع الطالبان أمر له جدواه. بل إن روسيا قد تصبح رأس الحربة في المبادرات الإقليمية لمكافحة الإرهاب، مع اضطلاع أفغانستان بدور مركزي. وفي حين أن دول آسيا الوسطى باستثناء طاجيكستان لم تعترف بعد رسميا بطالبان، فإن أغلبها قبل لأسباب براجماتية الواقع الجديد في كابول، من جراء الخوف المشترك من التطرف والإرهاب.
وبعيدا عن الأمن، تدفع مصالح اقتصادية واستراتيجية روسيا إلى التعامل مع طالبان. فأفغانستان تحتل مفترق طرق آسيا الوسطى وجنوب آسيا، فتمثل مركزا محتملا للتبادل التجاري وممرات الطاقة. وروسيا ـ فضلا عن الصين ـ ترى فرصا في البنية الأساسية والتعدين والطاقة والزراعة والنقل واللوجستيات من قبيل السكك الحديدية التي تربط روسيا بباكستان بالمحيط الهندي عبر آسيا الوسطى وأفغانستان. وقد يطلق الاعتراف الرسمي العنان لهذه الفرص، بشرط أن تتمكن طالبان من ضمان الأمن. ومن خلال هذه المبادأة، ترجو موسكو أن تضمن لنفسها منافع اقتصادية ملموسة، بما يتسق مع تركيز كابول على التنمية.
قد يرفض المنتقدون في الغرب هذه الخطوة التي خطتها روسيا ويرون فيها حيلة لئيمة لتعزيز الكتلة الاستبدادية المناهضة للغرب مع تجاهل حقوق الإنسان، وبخاصة ما اتصل منها بحقوق النساء. غير أننا يمكن أن نزداد فهما للقرار إن نظرنا إليه عبر عدسات سياسات القوى العظمى والمصلحة الوطنية لا من خلال عدسات الأيديولوجيا. إذ يتيح الاعتراف بطالبان لموسكو أن تقوض المبادرات الغربية لعزلها وتضرب مثلا بوجود الأطر الدبلوماسية خارج التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة. ويرسخ هذا النظام الدولي الموازي الذي لا يملي فيه الرفض الأمريكي السياسات، وهذه خطوة أخرى باتجاه العالم متعدد الأقطاب الذي تنشده روسيا، وتكون هي نفسها فيه لاعبا مهيمنا في آسيا الوسطى.
أما الانتقادات القائمة على المبادئ لتعامل روسيا مع طالبان فانتقادات جوفاء تتعارض تماما مع التطبيع الغربي السريع للعلاقات مع النظام السوري الحاكم في ما بعد الأسد، بزعامة أحمد الشرع. وفي حين أن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لم يصنف طالبان قط بوصفها جماعة إرهابية، فقد كانت القاعدة، ولا تزال، في قائمته.
غير أن معيار القبول كان شديد التدني في حالة الشرع الذي التقى بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبغيرهما من قادة الغرب بعيد فتح دمشق. هذا على الرغم من الهجمات المستمرة على الكنائس والتقارير المؤكدة عن العنف المروع ضد النساء العلويات من قبل الميليشيات المتطرفة، وهي فظائع عجزت الحكومة السورية عن وقفها. وعلى الرغم من بشاعة معاملة طالبان للنساء، فقد استعادت الجماعة على الأقل قدرا من النظام العام. يأتي تناقض الغرب في التعامل مع سوريا وأفغانستان ليرسخ تصوير موسكو لنفسها بوصفها طرفا براجماتيا عاقلا. ومع ذلك، فإن علاقة روسيا بكابول لا تخلو من مخاطر. فلن تخضع طالبان بسهولة ـ وهي الحركة القومية الضارية التي تضرب جذورها في القومية البشتونية ـ لأي قوة خارجية، وإن تكن روسيا. وهم يرون العلاقات مع موسكو محض خيط في جديلة السياسة الخارجية ذات الخيوط المتنوعة، وتتوازن مع العلاقات بالصين وإيران وآسيا الوسطى والخليج الغربي بل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إذا ما تيسر التعامل. غير أن المنافع الاستراتيجية في الوقت الراهن تفوق الأخطار بالنسبة للكرملين. وبالاعتراف بطالبان، تقوي روسيا موطئ قدمها في آسيا الوسطى وجنوب آسيا، وتتحدى الهيمنة الدبلوماسية الغربية، وتجعل من نفسها وسيطا في منطقة انسحبت منها أمريكا.
إلدار ماميدوف خبير في السياسة الخارجية مقيم في بروكسل. عمل في وزارة الخارجية في لاتفيا ودبلوماسيا في سفارتيها في واشنطن ومدريد، ويعمل منذ عام 2009 مستشارا سياسيا للديمقراطيين الاجتماعيين في لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الأوروبي.
الترجمة عن ذي ناشونال إنتريست
https://nationalinterest.org/blog/silk-road-rivalries/why-russia-recognized-the-taliban
