مائة عام من الحب
أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية قبل أيام عددا نوعيا كملحق عنوانه (مائة عام من العطاء) وقد جاء داخل عدد مجلة الدراسات رقم 143، مخصصا لتكريم المفكر والباحث الفلسطيني الكبير الدكتور وليد الخالدي، ابن المفكر الراحل المقدسي الكبير أحمد سامح الخالدي.
وليد الخالدي مؤرخ فلسطيني من الجيل المبكّر، كرّس حياته لتوثيق وترسيخ الهوية الفلسطينية من خلال الأرشيف والبحث والتعليم، وساهم في تأسيس مؤسسات بحثية وقد تركت مشاركاته الفكرية والدبلوماسية أثرًا لا يزال حاضرًا في الساحة الفلسطينية والعربية. الملحق جاء بافتتاحية لهيئة التحرير عنوانها (تحية إلى وليد الخالدي) جاء فيها: (هذه السنة يبلغ عمر الأستاذ وليد الخالدي مائة عام بذاكرة متقدة وبشغفه وانشغاله الأول وهو القضية الفلسطينية بما تحمله من أبعاد تاريخية وسياسية وأخلاقية، ولهذا لا تزال مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومستقبلها يشغلان تفكيره، ليس لكونه رئيسا فخريا لها، أو مؤسسها أو أمين سرها، لأكثر من خمسين عاما، بل ليقينه التام بمدى الحاجة الماسة إلى استمرارها وتطوير أدوات عملها، وخصوصا، لأن أسباب تأسيسها، الأولى ما زالت قائمة، بل تزداد ضراوة، وتتخذ أشكالا جديدة، ولا سيما أن حرب الإبادة، التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين، مستمرة وعلى أكثر من جبهة، ونعيشها منذ أكثر من عشرين شهرًا، نتابعها ونعايشها يوميًّا، ونبحثها ونوثقها، ونستشرف مآلاتها، فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا).
عشرات الأسماء الفلسطينية شاركت في الكتابة عن وليد الخالدي، تأثيره وإنجازاته، وإلهامه، من أبرزهم طارق متري الذي كتب عن فرادة وليد الخالدي، مشيرا إلى أن مؤسسة الدراسات بقيت بفضل صلابته ومثابرته وفية لدورها. الباحث هشام نشابة كتب عن وليد الخالدي بصفته مؤرخا للقضية الفلسطينية: (الأستاذ الخالدي عالم جليل، وهو كبير مؤرخي القضية الفلسطينية، إلى جانب كونه مفكرا عروبيا ملتزما عاش هذا الالتزام في مؤلفاته كما حياته، ولعل أبرز هذه المواقف استقالته من منصبه كأستاذ في جامعة أكسفورد احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر). الكاتب كميل منصور كتب عن كون الخالدي مدرسة بمعنى الكلمة، ويروي قصة الإلهام الذي أخذه من مواقف وتحليلات المؤرخ الكبير؛ فنقاشاته التي كان يديرها في مناسبات مختلفة، كانت فرصة للتعلم واكتساب الخبرات.
وتتعاقب المقابلات التكريمية للخالدي من أسماء مهمة في فلسطين والعالم العربي، مثل: محمود سويد وفيليب مطر، وطاهر كنعان وإيلان بابيه ونديم روحانا وعادل مناع، ونظمي الجعبة، وليندا بتلر، وصقر أبو فخر، وربيع جابر وخالد فراج، ونرمين عباس وغيرهم.
يبدو أن حظنا رائع في فلسطين بوجود المؤرخ العظيم ليس على قيد الحياة فقط بل على قيد الشغف والانتباه والكتابة، فهذا المنتمي ابن منتمٍ آخر هو أحمد سامح الخالدي صاحب المؤلفات العظيمة في الفكر التربوي والترجمات والذي تُوفي ببيروت في الخمسينيات من القرن الماضي بعد أن تهجر من القدس بعد احتلال الصهاينة لها، وقد أدار فيها أهم مؤسسة تربوية فلسطينية طبقت شهرتها الآفاق هي الكلية العربية، تأسست الكلية في عشرينيات القرن الماضي وأدارها في البداية خليل السكاكيني وخليل وطوطح قبل أن يتسلمها أحمد سامح الخالدي أواخر الثلاثينيات ناقلا إياها إلى مستوى عال من الحداثة وإلى مكان جديد قرب قرية جبل المكبر بعد أن كانت مبانيها صغيرة ومتفرقة قرب باب الزاهرة وقد تخرج فيها عشرات من النخب الفلسطينية الذين أثروا وساهموا في تقدم الحياة العلمية والتاريخية والأدبية الفلسطينية في فترة الثلاثينيات والأربعينيات.
ليس غريبا إذن أن ينمو وليد الخالد نموا فكريا غنيا وثوريا داخل هذا الجو العائلي والوطني والمناخ التربوي والثقافي والوطني، وأن يتشبع بكل هذه القيم الجميلة.
هذه مائة عام من الحب والعطاء. كم نحن سعداء بوجودك بيننا أستاذنا الكبير وليد الخالدي.
