ماذا لو؟
«إن العدوانية تتخذ خصوصيتها تبعا للكائن المُعتدى عليه إزاء الذات المعتدية. ويشتمل الوضع الأكثر تكرارا فـي استدعائه على تماثل معين بين المعتدي والمُعتَدَى عليه: نحن متنافسون بغية الحصول على الشيء نفسه، وعلى الحظوة نفسها. وإني لأعتدي على الآخر لكي أحتل الموقع الأول (الوحيد) المُشتهى. ولقد يعني هذا إذا أن العدوانية هنا ليست سوى أداة موضوعة فـي خدمة البحث عن الاعتراف: إن هذا إقصاء للمنافسين». الحياة المشتركة، تزفيتان تودوروف.
لا أعتقد أن أحدا من الخليج العربي خصوصا، ومن الدول العربية جميعها والدول المحيطة بإيران؛ استطاع أن يتجاهل ما يحدث من حرب حقيقية بين كيان الاحتلال الذي اعتدى على إيران مرارا، وبين الجمهورية الإسلامية. هذه الحرب غير المتكافئة التي يتطاحن فـيها نظام بأكمله -الاحتلال والعالم الغربي خلفها- وبين دولة محاصرة اقتصاديا وتتعرض قياداتها وعلماؤها وعقولها للاغتيال بين فـينة وأخرى.
هذه الحرب التي يتابعها الناس بمزيج مرعب ولا مبالاة فـي الوقت ذاته؛ ففـي حين أن قلوبنا تبلغ الحناجر خوفا من كارثة نووية سنصطلي بنيرانها أولا، ولأن إيران هي الكاسرة الأخيرة لأمواج الشر الهائجة، فهي المقاوم الوحيد والمستعد للمجابهة. ولا يخفى على أحد ما لإيران من مكانة ضبابية عند كثير من الناس؛ فمن ناحية هي التي تدعم المقاومة وترد -مؤخرا- الضربات على الكيان بالقوة ذاتها والحسابات الاستراتيجية ذاتها للحروب، ولكنها إيران التي تنتشر أذرعها فـي أمكنة مختلفة من العالم العربي الكبير، فضلا عن الصراع المذهبي واعتبارها تمثل قطبا بذاته من أقطاب المذاهب الإسلامية.
بغض النظر عن المحاجات المنطقية واللامنطقية فـي مسألة فـي صف من يقف المرء؟ وهل هنالك من داع لأن يتخذ موقفا فـي الأساس؟. لكننا لا ننسى أن هذه الحرب هي ما يمكن أن يكون الفتيل المتلظي المتصل بالقنبلة التي ستفجر الحرب العالمية الثالثة.
ما العمل والحالة هذه إذن؟، قد يعمد الناس فـي مقارباتهم وتطبيقهم لتلك المقاربات إلى أمرين متضادين تماما؛ فإما أن يُبرز ذلك أفضل ما فـيهم وإما أن يجعلهم يركنون إلى ما اعتادوا عليهم ويهملون الحقيقة الماثلة أمامهم باحتمالية الفناء. ننسى أحيانا أن المرء سيرحل يوما ما بغض النظر عن كيف عاش حياته وما إن عاشها على النحو الذي يريد أو الذي ينبغي إذا نظرنا إلى الأمر من عين الخطأ والصواب.
لكننا فـي الحرب نتعامل مع موت مختلف، موت غير الذي اعتدنا عليه، موت لا نعرفه ولا نألفه ولا نتوقعه، فقد يموت بعضنا وقد نموت جميعا، لكن المسألة فـي غياب التوقع وإمكانيته. ولا ينبغي أن يكون هذا داعيا لنا لأن نقف مكتوفـين ونترقب خائفـين، بل أن نعمل لحياتنا كأننا سنعيش أبدا، ونتعامل مع من حولنا كأننا راحلون الآن لا غدا. ولنسأل أنفسنا؛ ماذا لو كان هذا آخر يوم فـي حياتنا؟ ماذا سنفعل؟ وكيف سنقضيه؟. وعلى الرغم من بساطة السؤال، إلا أنه قد يقلبنا ويقلب حياتنا تماما، ومن الممكن أن يعيد تشكيلنا إلى الأبد، فالموت من المذكرات الوجودية بكينونتنا الإنسانية الذائبة فـي دائرة الاستهلاكية المفرغة للأفكار والمشاعر والسلع اللانهائية، حتى غدا الإنسان ذاته سلعة فـي هذا السوق الكبير الذي يسلب تركيزنا ووعينا بلحظتنا الآنية. وإذا لم يكن من الموت بد، فلا حياة بلا موقف أو مبدأ أقول: إنني عشت لأجله وأموت لأجله.
وكما بدأت بالمفكر الرائع تودوروف، أختم بقطعة من كتابه كذلك حيث يقول: «إننا نخاف من الموت، وإذا نخاف أيضا من كل ما يجعلنا نفكر فـيه. وإننا لنفضل أن نبعد عن مجال رؤيتنا هؤلاء الذين يذكروننا به كثيرا. ولكي يكون ذلك، فإننا نسجن الكهول فـي بيوت للتقاعد، حيث لا يرون إلا كهولا آخرين: لقد تخلصنا من هذا المشهد غير الملائم، ولكن هؤلاء لن يحصلوا إلا على إحساس ضئيل بالوجود فـي هذه الأمكنة؛ حيث يعاشرون ليس أولئك الذين كان يحسب لهم حساب فـي حياتهم، ولكنهم يعاشرون مجهولين، يشبهونهم بالإضافة إلى ذلك، وإذا لا فائدة فـيهم.
وهكذا، فإن تعددية الوحدانيات لا تخلق مجتمعا. ثم إن الخطوة التالية هي المستشفى؛ حيث يموت، فـي أيامنا، معظم الأشخاص المسنين: إننا نعالج فـيها أعضاءهم، وليس كائنهم ونسعى إلى تطويل حياتهم، وليس وجودهم. فالكهول يموتون وحدانيين: لقد غادرهم الوجود قبل أن تغادرهم الحياة».
