هل يصبح خيال الإنسان الخارق واقعًـا ؟
تتصاعد وتيرة مشروعات توأمة الإنسان والآلة الساعية إلى دمج الأنظمة الرقمية في النظام البيولوجي عند الإنسان الذي يعرف بمشروع رقمنة الإنسان، وكذلك منح الآلة -يعّبر عن الآلة بالمفهوم الحالي بالذكاء الاصطناعي- القدرة على اكتساب الصفات البشرية بما فيها القدرات الدماغية وأسس الوعي، وهذا ما يُعرف بأنسنة الآلة. لم تعدْ مثل هذه المشروعات مجرد خيالات علمية أو طموحات في خطواتها الأولى بل دخلت حيّز التجربة والتنفيذ لتتجاوز حاجز التوقعات العلمية.
مفهوم الإنسان الرقمي منوط بالأنظمة الرقمية التي يمكن أن تتفاعل مع أنظمة الإنسان البيولوجية خصوصا الدماغ، وتشمل هذه الأنظمة الحوسبة الدقيقة التي تأتي في شكل شرائح دقيقة تصل في حالاتها الحديثة إلى حجم النانو، ويمكن لهذه الأنظمة الحاسوبية الدقيقة أن تتناغم وتعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي، وأن تتواصل مع البيئة المحيطة بواسطة تقنية إنترنت الأشياء التي تقوم بوظيفة جمع البيانات وتبادلها بين المستشعرات الرقمية والمستشعرات العصبية البيولوجية.
وتتولد الكثير من الأسئلة فيما يخص مشروعات رقمنة الإنسان مثل: ما النتائج التي يسعى العلم إلى بلوغها عبر رقمنة الإنسان؟ وكيف يمكن تطبيق مشروع الإنسان الرقمي؟ وأين وصل العلم؟ وما آخر مستجدات هذه المشروعات؟ وأين تكمن إرادتنا وحرية أفكارنا مع التداخل الرقمي في النظام البيولوجي؟ وماذا عن المخاطر المحتملة من هذه المشروعات التي تسمح بالتزاوج الرقمي والبيولوجي؟ وما مستويات إدراكنا بمشروع رقمنة الإنسان؟ من الممكن استيعاب مشروعات أنسنة الآلة أو الذكاء الاصطناعي عبر جعل الأنظمة الحاسوبيّة والآلات قادرة على محاكاة الدماغ البشري إلى درجة عالية من الكفاءة التي تتفوق في بعض وظائفها على صانعها «الإنسان»، وأقرب أمثلة هذه المشروعات نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدية رغم أنها تعد نماذج ذكية بدائية نسبة إلى قوة الذكاء القادمة لنماذج الذكاء الاصطناعي، ولكننا سنحاول في هذا المقال العلمي التعرّف على مشروع أكثر دهشة وتعقيدا من مشروع أنسنة الذكاء الاصطناعي، وهو مشروع رقمنة الإنسان الذي يسعى العلم إلى تحقيق أحلام العلماء والفلاسفة في بلوغ ما يُعرف في سرديات الخيال العلمي بـ«الإنسان الخارق»، ولعل أقرب الأمثلة الواقعية في حاضرنا التي يمكن أن تقرّبنا من فكرة هذه المشروعات ما يُعرف ب«شريحة إيلون ماسك» كما سنرى في السطور القادمة.
شريحة إيلون ماسك
نأتي إلى أحد أحدث المشروعات المتعلقة برقمنة الإنسان التي يمكن أن تقرّب القارئ إلى فهم أسس هذه المشروعات وفلسفتها، والمشروع هو شريحة إيلون ماسك -التي سبق الإشارة إليها بشكل مختصر في مقالات سابقة- الذي يُعرف بمشروع «نويرالنك Neuralink»، وهي تقنية طورتها شركة Neuralink التي أسسها «إيلون ماسك» عام 2016م، وتهدف هذه التقنية إلى إنشاء واجهات عصبية تسمح بالتواصل المباشر بين الدماغ البشري والأجهزة الإلكترونية الرقمية، ويكمن الهدف من هذا المشروع في تعزيز القدرات البشرية، وتقديم الحلول لبعض المشكلات العصبية التي استعصى حلها بواسطة الخيارات الطبية التقليدية. تعمل شريحة Neuralink على آلية زرع شرائح إلكترونية رقمية صغيرة جدًا داخل الدماغ متصلة بخيوط رفيعة جدًا تحتوي على أقطاب كهربائية قادرة على قراءة النشاط العصبي للدماغ.
وتكون هذه الخيوط أرفع بكثير من شعرة الإنسان، وتُزرع بعناية فائقة داخل الدماغ لتجنب إلحاق أيّ ضررٍ بالدماغ، ويمكن للشريحة تسجيل النشاط الكهربائي في الدماغ وإرساله إلى جهاز خارجي عبر اتصال لاسلكي، مما يتيح التواصل بين الدماغ والأجهزة الخارجية دون الحاجة إلى واجهات جسدية وفقا لمبدأ التفاعل المتبادل بين النظام الرقمي والبيولوجي.
واستنادا إلى آخر المستجدات، تركزت التجارب الحالية لشركة Neuralink على الحيوانات مثل الخنازير والقرود، وفي إحدى التجارب البارزة عُرضَ قرد يتحكم في لعبة فيديو بواسطة دماغه فقط دون استعمال أيّ مساعدات جسدية مثل اليدين، وتهدف هذه التجارب التي تجرى على الحيوانات إلى إثبات فعالية التقنية وسلامتها قبل الانتقال إلى التجارب السريرية على البشر، وأعطت منظمة الدواء والطعام الأمريكية موافقتها في شهر مارس 2023م لبدء التجارب على البشر، وأعلن «أيلون ماسك» في بداية عام 2024م عن أول زراعة لشريحة Neuralink في دماغ مريض، وأكد على ظهور نتائج مبدئية مبشّرة بفعالية هذه الشريحة التي تمثّل مظهرا من مظاهر رقمنة الإنسان.
أما عن الفوائد المحتملة لشريحة Neuralink؛ فهي متعددة وواعدة، وتشمل: علاج الاضطرابات العصبية مثل الشلل، الصرع، ومرض باركنسون التي يمكن معالجتها بواسطة تحفيز مناطق محددة في الدماغ أو تعديل النشاط العصبي. كذلك استعادة بعض الحواس لقدراتها مثل الرؤية والسمع للأشخاص الذين فقدوا هذه القدرات نتيجة لإصابات أو أمراض أو عيوب خلقية، وأيضا تحسين القدرات الإدراكية للدماغ مثل تعزيز الذاكرة أو سرعة المعالجة العقلية والتحليلية. كذلك تعزيز قدرة التواصل بواسطة التفكير؛ إذ يحتمل حينها أن يستطيع الدماغ البشري من التواصل مع الأجهزة الإلكترونية وأنظمتها الرقمية بشكل مباشر بواسطة الأفكار التي تنتقل من البيئة المحيطة إلى الدماغ والعكس أيضا -هذا ما يدخل أيضا في نطاق ما يمكن أن نطلق عليه بيانات الدماغ كما سنأتي إليه في فقرات قادمة- دون الحاجة إلى جهد جسدي، وهذا مفيد جدا لمن لا يستطيعون الحركة. بالرغم من الحلول الواعدة التي يمكن لشريحة Neuralink أن تقدمها في الحقل الطبي، ثمّة تحديات كبيرة تتعلق بالسلامة والأخلاقيات والخصوصية؛ إذ ينطوي على زرع أجهزة داخل الدماغ مخاطر صحية مثل خطر العدوى والتأثيرات غير المرغوب فيها على الوظائف العصبية، ومن الزاوية الأخلاقية، تثير القدرة على تعديل أو تحفيز الدماغ مجموعة من التساؤلات فيما يخصّ الهوية الشخصية والتحكم في العقل وحرية الأفكار والإرادة الحرة للإنسان، وثمّة مخاوف أخرى تتعلق بالخصوصية وأمن البيانات العصبية التي يمكن جمعها عن طريق هذه التقنية الرقمية.
ووفقا لخبر نشره موقع «CNN» بتاريخ 27 سبتمبر 2023م، طوّرت شركة هولندية تقنية -مشابهة لشريحة إيلون ماسك- تعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي، وقامت بتجربتها على رجل سويسري مصاب بالشلل نتيجة حادث على الجليد عن طريق زراعة الشريحة الرقمية داخل دماغه مما يسمح لخوارزمية الذكاء الاصطناعي بالوصول إلى أفكاره ونواياه في الدماغ عبر المستشعرات، وذلك عبر قراءة الإشارات الكهربائية العصبية وتحليلها ونقل المعلومات إلى أعضاء الجسم وعضلاته لتمكينه من الحركة وفقا لإرادة الدماغ؛ فيكون حينها الذكاء الاصطناعي بمثابة الجسر الرقمي الذي يربط النظام البيولوجي المتضرر بالنظام الرقمي المساعد.
التحكم بالدماغ والأفكار
نجح باحثون في جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأميركية -وفقا لخبر نشرته صحيفة الجارديان البريطانية- في تطوير نظام كسر شفرات يعمل على خوارزمية الذكاء الاصطناعي قادر على ترجمة نشاط الدماغ إلى سلسلة متواصلة من النصوص؛ فيسمح بقراءة أفكار الشخص بطريقة غير جراحية لأول مرة، ويمكن لهذه التقنية الذكية أن تعيد بناء الكلام بدقة عالية بينما يستمع الأشخاص إلى قصة -أو حتى يتخيلونها بصمت- بواسطة استعمال بيانات فحص الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، وتعدّ مثل هذه التقنيات الذكية ثورة رقمية أخرى تساعد على استعادة القدرة على الكلام لدى المرضى الذين يواجهون صعوبات في التواصل بسبب السكتة الدماغية أو مرض العصبون الحركي. عبر ما تقدم ذكره من قدرة الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية الدقيقة من الولوج إلى أجسادنا والتفاعل مع أنظمتنا البيولوجية، يتبادر تساؤل عن مستقبل مثل هذه التقنيات الذكية وتأثيراتها على استقلال أفكارنا وحرية إرادتنا التي تكون عرضة للتداخلات الرقمية، وعن خصوصية هذه الأفكار التي سيعدها الذكاء الاصطناعي بيانات يتغذى عليها لمواصلة عملياته وتطويراته التحليلية والتفكيرية، وعن الجانب الأخلاقي لهذا الجانب.
بيانات الدماغ عرضة للقرصنة
من ناحية المبدأ العلمي الحالي فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على الولوج إلى أجسادنا بما في ذلك نظامنا الدماغي والقدرة على التفاعل والتحكم بالأنظمة البيولوجية هو أمر حاصل نشهده في واقعنا العلمي الحالي إلا أن هذه القدرة -حتى اللحظة- محكومة بالأخلاقيات العلمية التي لا تزال تُقيِّد نشاط التجارب لهذه التقنيات وتوظيفها الفعلي في نطاق محدود بدءا بالحيوانات وعبورا -بعد مراحل من التجارب الناجحة- إلى البشر ذي الحالات الصحية الطارئة مثل التي سقناها في السطور السابقة، ومع ذلك فإن المجتمع الرقمي يميل إلى تقبّل مثل هذه التقنيات؛ فنجد أن رقعة هذه التقنيات في توسع وزحف إلى الإنسان؛ فهناك تشجيع إلى إدخال هذه التقنيات الذكية الدقيقة إلى أجسادنا ليس لأغراض صحية فحسب بل لأهداف اقتصادية تهدف إلى تسهيل العمليات المالية والمصرفية والاقتصادية وضمان أمنها التي يمكن إجراؤها بلمسة من اليد أو عبر بصمة العين، وتهدف كذلك إلى جمع البيانات البيولوجية للإنسان للمراقبة الصحية الوقائية، وإلى بعض الخدمات المدنية المتعلقة بالبيانات الشخصية للأفراد التي تتطلبها المؤسسات الحكومية إلا أن هذا من شأنه أن يقود إلى -في بعض الحالات- أن تكون بيانات الإنسان عرضة لانتهاك الخصوصية والاختراق والقرصنة مما يسمح في حالات متقدمة إلى الولوج إلى الأنظمة البيولوجية ووظائفها ومهاجمتها وتعطيلها أو التحكم بها، وحينها نكرر أنه من حيث المبدأ العلمي فإن الذكاء الاصطناعي وفقا لمشروعات رقمنة الإنسان قادر على إحداث تحكم بأنظمتنا الدماغية بما فيها الأفكار والإرادة.
مشروعات رقمنة الإنسان
يمكن التعامل مع البيانات البيولوجية التي تتصل بأنظمة الذكاء الاصطناعي وأنظمة الاتصال المتقدمة بطرق تشبه آلية التعامل مع البيانات التي تدخل إلى الأجهزة الحاسوبية التي تكون عرضة للقرصنة الرقمية؛ فتحتاج البيانات البيولوجية إلى حماية سيبرانية بواسطة وسائل متعددة منها نظام التشفير الذي ينبغي أن يكون متطورا من حيث قدرته على التعامل مع تحديات الأمن السيبراني المستجدة، وإحدى هذه الأنظمة التشفيرية المستعملة لحماية البيانات ما يُعرف بالتشفير الكوانتمي الذي سبق تناوله في مقال سابق نشرته جريدة «$» في الملحق العلمي، ويكون التشفير لهذه البيانات في جميع المراحل منها أثناء الإرسال والتخزين والتفاعل مع الأنظمة البيولوجية وكذلك يجب أن تكون عملية نقل البيانات من الشرائح الرقمية التي في داخل جسم الإنسان -مثل حالة شريحة Neuralink- إلى الأجهزة الخارجية وأنظمتها عبر قنوات اتصال آمنة ومشفرة، ويمكن استعمال بروتوكولات مثل TLS (أمن طبقة النقل)؛ لضمان حفظ البيانات بطريقة سرية وسليمة أثناء عملية النقل. كذلك يمكن اعتماد خوارزميات الذكاء الاصطناعي في القيام بدور المراقب لهذه البيانات واكتشاف أيّ ثغرات أمنية يمكن بواسطتها أن يحدث الاختراق، وللذكاء الاصطناعي قدرة على المناورة السيبرانية عبر تحليل أنماط الأنشطة المشبوهة التي سبق أن تدرب عليها، وقدرته على الاستجابة التلقائية السريعة لمثل هذه التهديدات.
الإنسان الخارق
توحي مشروعات ارتباط أدمغتنا بالحوسبة والذكاء الاصطناعي وبلوغها مستويات التحكم في أفكارنا وإرادتنا ومشاعرنا بأن العلم يتجه إلى تحقيق ما يعرف -مجازا- بـ«الإنسان الخارق» الذي كان قبل سنوات طويلة يُعدّ من سرديات أدب الخيال العلمي، ولكن باتت مثل هذه المشروعات واقعا، وتتطور بسرعة عالية؛ فنجد حدوث هذه التوأمة بين النظام الرقمي والبيولوجي الذي يهدف إلى منح الإنسان صحة بدنية ونفسية عالية تسهم في زيادة متوسط عمره الذي تقدّره بعض الدراسات بأن يتجاوز 150 عاما إلا أن هذه المشروعات التي تسعى إلى رقمنة الإنسان محفوفة بمخاطر كثيرة وتهديدات غير معهودة مثل التي عرضناها سابقا، ولكن لابد من مواجهة التحديات مع كل مرحلة علمية جديدة، ولابد من تجاوزها مع تراكم التجارب والمعرفة في الحضارة الإنسانية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
