قانون الشورى وأخلاقيات الانتخاب
تكمن أهمية مجالس الشورى والبرلمانات في تأسُّسها على مبدأ التشاور والديموقراطية، التي أصبحت محور العمل السياسي ومرتكز قدرة المجتمعات في التعبير عن رأيها ومساهمتها الفاعلة في تطوير التشريعات والقوانين، وتقديم أطروحات تنموية فاعلة تدعم عمل الحكومات، وتقدِّم مقترحات من شأنها تفعيل أهداف الرؤى التنموية والبرامج التنفيذية، ولهذا فإن هذه المجالس بأشكالها المتعددة تقوم على مفاهيم عامة أساسية تعتمد عليها في أداء مهامها ووظائفها المنصوص عليها، مع اختلاف بعض الأنظمة واللوائح التي تؤطر تلك الخصوصيات التي تختلف من نظام سياسي وآخر بين دول العالم.
ولهذا فإن هناك مرتكزات عامة وأُسس عربية وعالمية يقوم عليها عمل تلك المجالس؛ من حيث تنظيمها الداخلي وكيفية التمثيل وعدده إلى غير ذلك، إلاَّ أن قدرة الدول على فهم عمق فكرة الشورى باعتبارها إرثا إسلاميا من ناحية، وتوظيفها بمفهوم حداثي مساهم في التنمية من ناحية أخرى، وتوطيد هذا المفهوم على المستوى المجتمعي من ناحية ثالثة، يُعد الأساس الذي قامت عليه فكرة الشورى في عُمان منذ إنشاء (المجلس الاستشاري للدولة) في العام 1981م، ثم تأسيس مجلس الشورى في العام 1991م، وتبعه مجلس عُمان في العام 1997م بغرفتيه الدولة والشورى، وهي فكرة عمادها المشاركة التنموية الفاعلة، القادرة على تمثيل آراء أفراد المجتمع بكافة أطيافهم وتنوعاتهم، والهادفة إلى البناء الإيجابي ودعم توجهات الوطن وتعزيز الإمكانات المتاحة وتعظيمها.
ولأن هذه المجالس قائمة على أهداف ورؤى واضحة، فإنها تتأسَّس وفق قوانين وتشريعات قادرة على ضمان الثقة والمصداقية لدى أفراد المجتمع، حيث تتميَّز بالقدرة على الضبط الإجرائي والقانوني للعملية الانتخابية؛ بدءا بضوابط الترشح والانتخاب، واللجان الإشرافية والتنفيذية، والبرامج المساندة، وحتى الاقتراع وإعلان النتائج. إن هذه الإجراءات ليست بديهية بقدر ما هي ضابطة لمفاهيم أساسية لمبدأ الشورى نفسه، فالتشريعات التي تحكُم الانتخاب تُعدُّ مرآة تعكس أهمية الشورى باعتبارها قيمة أخلاقية اجتماعية، وتُبيِّن القيم المجتمعية التشاركية التي تبني أسسها و توضِّح إمكانات هذه القيمة وقدرتها على المساهمة في التنمية الوطنية، إذا ما تمت وفق قوانين تتصِّف بالوضوح والشفافية والثقة.
إن قانون انتخاب أعضاء مجلس الشورى الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 54/2023، يعكس فكرة تطوير الأنظمة التشريعية والسياسات التي تقوم عليها العملية الانتخابية من حيث التنظيم والإعداد والتنفيذ، كما تُبرز أخلاقيات الانتخاب، سواء بالنسبة للمترشِّحين أو الناخبين أو الهيئات الإدارية المختلفة. إنه قانون ينطلق من وعي أفراد المجتمع بالمفاهيم الحديثة للشورى والانتخاب، كما يكشف تلك المنظومة التعاونية والتشاركية التي يجب أن تقوم عليها عمليات الترشُّح والانتخاب، والتي يشترك ضمنها أفراد المجتمع في تظاهرة وطنية تتصِّف بالمصداقية والثقة المتبادلة.
لقد تضمَّن القانون الجديد المستجدات الحديثة والتقنية التي يعتمد عليها انتخاب أعضاء مجلس الشورى في تطوير أدوات الانتخاب والاقتراع من أجل تحديث هذه المنظومة بما يتناسب والتحولات المتسارعة في البنية التحتية والتطورات التكنولوجية والتنموية للدولة، ولهذا فإن القانون أخذ على عاتقه تحديث تلك الأدوات انطلاقا من قانون انتخاب أعضاء مجلس الشورى الذي صدر في العام 2013، وما قبله من قوانين وتشريعات أخذ كل منها في الاعتبار تلك التطورات والتحولات التنموية التي يمر بها المجتمع في كافة قطاعاته، بُغية مواءمته مع فكر المجتمع وتطلعاته وقدرته على فهم الفكر الشوروي و وعي أهميته ودوره الفاعل في التنمية وإحداث التغيير الإيجابي الذي يتناسب مع تلك التطلعات.
ولعل مفاهيم أخلاقيات الانتخاب كان من بين أهم ما احتوى عليه القانون، فعلى الرغم من أن المواد التي تضمنت هذه الأخلاقيات جاءت ضمن الفصل السابع من القانون بعنوان (العقوبات)، إلاَّ أنها كانت حاضرة في الفصول كلها باعتبارها أداة أساسية بدءا من تشكيل اللجان والسجل الانتخابي، والتصويت وانتهاءً بالفرز وإعلان النتائج؛ ذلك لأنها قاعدة نجاح العملية الانتخابية كلها، ولهذا فإن تلك الأخلاقيات تكشف مستوى الوعي بفكر الشورى وقيمته الاجتماعية والسياسية والتنموية، التي من أجلها تأسَّس مجلس الشورى في عُمان.
لقد تضمَّن الفصل السابع مواد قانونية صريحة ضد العديد من الممارسات التي يمكن أن تؤدي إلى الإخلال في أنظمة الانتخاب من حيث قواعد الدعاية الانتخابية، أو الإساءة إلى المترشحين أو الإيذاء أو غير ذلك من الممارسات التي لا تسيء لهذه الأنظمة وحسب، بل أيضا تسيء إلى المجتمع وإلى المنظومة التي قام عليها مفهوم الانتخاب الحر؛ ذلك لأن أي تصرُّف يؤدي إلى الإخلال بعملية الانتخاب أو الإساءة إلى من يؤديها أو يشرف عليها، سيؤدي إلى الإساءة إلى مئات بل آلاف الناخبين الذين آمنوا بفكر الشورى والانتخاب الذي يمثِّل أداة ديموقراطية واعية، مشاركة في التنمية الوطنية.
وانطلاقا من ذلك فإن المشرِّع تعمِّد أن تكون أخلاقيات الانتخاب ضمن فصل العقوبات، حتى يغلِّظ عواقبها ويشدِّد على أهمية الانضباط، والالتزام بتلك الأخلاقيات، وهذا التغليظ لا يخص الناخبين وحدهم بل أيضا المترشحين، اللذين عليهم أن يكونوا قدوة أخلاقية في التعامل مع هذه الأخلاقيات، من حيث التزامهم بالضوابط الإدارية من ناحية، ومبادئ وقيم التعامل مع الناخبين من ناحية ثانية؛ إذ لا يجب على المترشحين الضغط على الناخبين أو منحهم آمالا بتحقيق مصالح شخصية وفوائد معنوية أو مادية، كما لا يحق لهم التأثير عليهم بالإكراه أو التهديد أو حتى بالإحراج بوسائل مختلفة من أجل الحصول على أصواتهم، فكيف بمن يشتريها، فالترشحون هم أمل تحقيق الشورى ومرآتها المجتمعية، وعليهم أن يكونوا قدرة أخلاقية، وأن يراهم الناخبون كذلك قبل أن يصلوا إلى المجلس.
وعلى الرغم من أن العديد من تلك الضوابط الأخلاقية قد تم ذكرها أيضا في قانون انتخاب أعضاء مجلس الشورى الصادر في العام 2013، إلاَّ أن العديد من أفراد المجتمع لا يعرفونها، ولا يدركون أهميتها؛ لأن الكثير منهم لا يطلِّع على القوانين والتشريعات التي تنظِّم القطاعات المختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى التغاضي عن بعض الممارسات التي قد تسئ للمجتمع، وقد تؤدي إلى فوز من لا يمكنه تمثيل أفراده بما يستحقون وما يستحق الوطن؛ فأعضاء مجلس الشورى لا يمثلون ولاياتهم وحسب بل يمثلون الوطن، ويعكسون ما قدمه في مسيرة تنمية موارده البشرية، بقدراتهم وأدائهم ومهاراتهم وخبراتهم العلمية والعملية.
إن وعي المجتمع بأخلاقيات الانتخاب وضوابطه بل وعقوبات من يخالف تلك الأخلاقيات، يُعد واجبا وطنيا نتحمَّله جميعا أفرادا ومؤسسات إعلامية وثقافية ومجتمعية؛ فلكل منَّا دوره وقدرته في إيصال تلك الأخلاقيات والتوعية بأهمية الالتزام بها، سواء من خلال النشر أو الفعاليات أو حتى بتوعية أفراد الأسرة والمقربين بُغية إيصال هذه الرسالة المجتمعية إلى أكبر قدر ممكن من أفراد المجتمع. ولعل ما بدأت به مؤسسات الإعلام المحلية المختلفة من حوارات تلفزيونية و إذاعية و صُحفية ينم عن وعي تام بتلك الأهمية، والضرورة الملحَّة لتهيئة المجتمع لهذه التظاهرة الوطنية، التي علينا جميعا أن نتكاتف من أجل نجاحها، فنحن من نوصل المترشح الكفء الذي يمثلنا إلى مجلس الشورى، ليكون صوتا تنمويا وفعلا قادرا على التأثير والمشاركة في تحقيق الأهداف الوطنية.
