المسرح وجمهوره
يقول المسرحي الراحل سعدالله ونوس:
«نحن لا نصنع مسرحا لكي نُثبت فقط أننا لاحقون برَكَب المدنية، وأننا نعرف المسرح كسوانا. إنّنا نصنع مسرحا لأننا نريد تغيير وتطوير عقلية، وتعميق وعي جماهيري بالمصير التاريخي لنا جميعًا»
هل جمهور المسرح في أزمة؟
ما نوع الجمهور إذا كانت هناك أزمة بالفعل؟
هل مهرجانات المسرح العربي في أزمة؟
هل هناك «وجه الجدار» يقف أو يفصل بين الجمهور وما يجري في الشارع أو المجال العام ولا يشاهده الجمهور فوق خشبة المسرح؟
ألم يتغير إيقاع الحياة في العصر الرقمي، فلماذا لا تتغير النظرة إلى المهرجانات نفسها؟ أليس في إثارتنا سؤال عن قدرة المهرجانات حل مشكلات المجتمع والجمهور المسرح، أحد أشكال التجني على الفن، والنظر إليه بنظرة نفعية أو علاجية ما؟
وإذا افترضنا أن الفن يعالج وينفع البشرية، كيف نفسر وجود الحرب وانتشار الجوع والمرض في العالم؟ هل استطاعت أقدم المسارح في العالم منع قرار سياسي ما؟
تعددت الرؤى والرسائل التي تحرص مهرجانات المسرح العربي على إقامتها في بلدانها باختلاف الأهداف والرسائل المراد تحقيقها. ومع اتساع رقعة المهرجانات في البلاد العربية اتسعت طموحات الفرق المسرحية، وصار مؤسسو بعض تلك المهرجانات لا يكترثون بنشاط الفرقة وتاريخها المسرحي في الدولة القادمة منها، لدرجة أنه جرى فتح الباب على مصراعيه فشاركت فرق ناشطة متوجة بالتميز إلى جانب فرق خاملة، لكن استطاع أعضاء إدارتها عقد علاقات نفعية في فضاءات مختلفة لتثبيت المشاركة في دورات مختلفة لمهرجانات قادمة. ولم يقتصر الأمر على ذلك الحال إنما يجري كذلك توجيه الدعوات الرسمية لمسؤولين وأفراد وإداريين وشيوخ للمشاركة في مهرجانات مسرحية وهم لا ناقة لهم في العرض ولا جملا.
وعطفا على تعدد الرؤى، فإن اجتراح أنواع عديدة من المسابقات والجوائز يفتح شهية سعي الفرق المسرحية للمشاركة بأي شكل كان، وإذا كانت فرقة ما قد حصدت بعض الجوائز في مسابقة وقدرت أن تصبح ممثلة لدولتها، فلا قلق أن يتم توزيع الكعكة واقتسامها بين قبائل الفرق المسرحية وشيوخها، بحيث تتم المساواة مثلا أو إحقاق الحق كما يتصور المتصورون!
ومع تنوع مهرجانات المسرح العربي من المحيط إلى الخليج، وتعدد عناوين المسابقات والجوائز الرسمية والتقديرية والمفاضلة بين أنواع التكريمات الداخلية والخارجية ومَن هو فوق الطاولة، ومَن جاء من تحتها، يستشكل على المنضمين في بعض الدورات جملة من قضايا المسرح وأسئلته، منها مثلا: ما محور الندوة الفكرية وما توصياتها؟ ولماذا صارت تغيب الجلسات التطبيقية لمناقشة العرض مع المعقبين والنقاد والجمهور؟ ما ردود فعل الجمهور حول بعض ثيمات العرض؟
في الواقع، يمكن أن تنقسم مناقشة الأسئلة السابقة من خلال منطلقين: الأول يبحث عن المنهج المتناول في مناقشة قضايا المسرح الإبداعية والفنية واللوجستية؟ والثاني يتناول الرؤية البعيدة أو الممكنة أو المتخيلة التي تتجه حياتنا المسرحية نحوها؟ ففي ظل عالم «متعولم» وحداثة تتجه إلى ما بعد الحداثة، واشتراطات تفرضها العلوم الإنسانية المتصلة بثقافة الإنترنت من جهة، وبالصناعات الثقافية من جهة أخرى، يصبح السؤال عن قدرة مهرجانات المسرح حل مشكلات المجتمعات لا جدوى من ورائه.
فمن يستطيع اليوم أن يُجزم أن حياة المجتمعات في ظل التقنية هي على ما يرام؟ ومن يُمكنه تقديم إجابات شافية حول العديد من الأخطاء التي يُحدثها الإنسان في الطبيعة وفي العلاقات الاجتماعية من حيث هو مكونٌ صعب ولغزٌ مُحيّر؟ ومن خلف هذا كله، أو بعضه، هناك من يعتقد أن المسرح عليه تقديم حلول وإجابات. ولكن كيف؟
في المجتمع التقليدي كانت الفرجات اليومية في الحياة بسيطة ومتحققة؛ بمعنى لم يكن الإنسان بحاجة إلى افتعال فرجة بصرية تقام في الشارع أو في الحارات أو في داخل السوق. وكمثال على ذلك، هناك فرجة خاصة بالأعياد وأخرى بمناسبات الزواج، يُمكن أن يصاحبهما الشعر الغنائي والموسيقى والرقص والصخب، وإذا كانت هذه المناسبات تخلو في سياقها من أي فعل درامي، فإن أي تجمع عائلي فيه الجدات والمخضرمون قد يتحوّل إلى فرجة وذلك من خلال تبادل الأسئلة بين الأجيال عن أسرار الوجود والغيب، فما يلبث كبار السِّن إلا القيام بفعل المُحاكاة وهم يحكون عن شخصيات من الماضي السحيق، حيث تتسرب بعض الألفاظ أو السلوكيات في نسيج الحكي. لقد اختلف الواقع كما اختلفت الحياة. فمع التقدم التقني امتلك الإنسان بيتا ووظيفة وسيارة وهاتفا وجهاز (تاب) يتصفح بالضغط على أزراره العالم من حوله، ويمكنه أن ينتخب الحكاية التي تناسبه، فلم تعد الجدات أو فعل الحكي التقليدي يناسب عالمنا اليوم. غدا تعبير العالم قرية صغيرة يفقد مزاياه ليتطوّر أو يتجدّد ليصير العالم قرية تقنية متعولمة وصغيرة، أو صار عالمنا اليوم في صورة واحدة، يصعب إيجاد الفارق في نسخها المتطابقة إلى حد كبير. فإذا كان المتلقي التقليدي عند ذهابه إلى عرض مسرحي كلاسيكي يبحث فيه عن الحكاية، فماذا يبحث جمهور المسرح اليوم من الشباب مثلا في عالم رقمي؟ هل يبحثون في جهازهم اللوحي الشخصي عن عرض يحتفي بجسد الممثل أو فنون الأداء للممثلة اليوغسلافية الصربية مارينا أبراموفيتش؟ أم سيبحثون عن هوياتهم الشخصية؟ ولنمضي قُدما مع الأسئلة: هل سيسألون عن آخر فيلم أقيم في مهرجان سينمائي ما؟ أو هل سيبحثون عن قائمة الروايات التي وصلت إلى قائمة الجوائز الكبرى؟
إن الاهتمام اليوم بمناقشة جمهور العرض المسرحي ومحاولة معرفة قدرة أو استطاعة المهرجانات المسرحية حل بعض مشكلات المسرح والجمهور هو اهتمام يتحرك في دائرة تتعلق بالمتخصصين من المسرحيين والمثقفين التنفيذيين الذين لديهم القدرة على فهم التحولات الحاصلة في المجتمعات. وهؤلاء مع الأسف الشديد ليسوا في أماكن إدارية أو مؤسسات ثقافية تؤهلهم لصناعة قرار يدعم الثقافة.
في مسرحية وعرض (حفلة سمر من أجل 5 حزيران) يؤكد ونوس على أن المسرحية «يشترك فيها الجمهور والتاريخ والرسميون وممثلون محترفون» وفي إحدى طبعات المسرحية لا أذكر سنتها أو رقمها، يذكر ونوس بما في معناه -وعبر إحساسه النابع بالمسؤولية- تَخَيل أن جمهور المسرحية سوف يخرجون بعد العرض للسير في مظاهرات وهتافات تُحاكم المسؤولين عن أسباب هزيمة العرب في عام 1967م. ما يتعين تسجيله في إطار نظرة سعدالله ونوس المتفائلة في ذلك الزمان إبان القوميات والأيديولوجيات والنظريات لا يمكن تصوره في جمهور اليوم، حيث يستطرد ونوس في موضع آخر من الكتاب فيكتب: «لا يجوز إطلاقا أن نَفهم الجمهور فهما سَاكنا بحيث يكفي أن نتعرّف عليه مرة واحدة وإلى الأبد. لأنّ هذا الجمهور يُصارِع، ويَحيَا، ويَتحرك دون توقف في مسيرة تاريخية اجتماعية طويلة. ومن الصعب معرفته أو فهم ظواهره بمعزل عن حركته»
***
يعرف الراسخون في المسرح العربي من أساتذة ونقاد ومنظّرين وباحثين وأكاديميين وممثلين ومخرجين وفنيين وإداريين وسينوغرافيين أن المسرح كغيره من وسائل الحياة والمعرفة قد مر بتحولات كثيرة. وعطفا على ما تقدم أعلاه (اتساع رقعة المهرجانات وتنوعها والفرجة التقليدية ومحاكاة الجدات والعالم الرقمي والجمهور غير الساكن) فإن قضايا المسرح العربي المتكررة والعالقة، ليست نابعة من المسرح بمفرده، إنّما تتعلق بإشكالات متعددة؛ الوجود في الزمن الآن والغد، ووجود المسرح في المدرسة، ووجود المسرح في الجامعة، والمسرح والمختبرات المسرحية، ووظيفة النقد والنقاد، ومساءلة الكتابة الدرامية نفسها للمسرح إزاء تراجع الكلمة والحوار إلى الوراء في مقابل إعلاء الصورة البصرية. لا بأس من ذلك كله، ولكننا هل تطورنا فعلا؟ هل خفّت مشكلات المسرح اللوجستية؟ هل تغيّر شكل المدينة التي حلمنا بها؟
عندما تخلّص المسرح من المقدس وانشغل بالمدنِّي قفز بذلك نحو الحضارة. وعندما صار يتناول رؤى وقضايا (ما بعد الحداثة)، دون اكتمال تناوله لقضاياه مع (الحداثة) نفسها، ولم يُشكل انشغالا بنيويا في المجتمعات، ولم يُمثل امتدادا معرفيا واضحا، فإنّ حل بعض مشكلات المسرح لا تتوقف على المهرجانات وحدها، بل على قوة المؤمنين بمسرح قادر على الاستمرار، سواء مِن الفاعلين الأساسيين أو مِن الجمهور. ولتحقيق هذا الكلام في الواقع، ينبغي أن تعود كلاسيكيات الأدب إلى المسرح بمعالجات عصرية وفضاء جديدين؛ الأدب الغني بالقيم الإنسانية، وأن تستعيد الدراما موقع الحكاية، وأن تنزل الحكاية إلى الشارع والناس مثلما أنزل سقراط الفلسفة من السماء حيث آلهة معبد دلفي وأدخلها إلى البيوت.
