رصيد الثقة في الحكومة ومستودع السلبية

30 يوليو 2023
30 يوليو 2023

يعاني العالم -لا شك- أزمة ثقة عامة لم تترك مجالا إلا وطالته، بداية من الصعيد الشخصي في العلاقات الإنسانية عاطفية أو اجتماعية، مرورا بالتعاقدات والعلاقات اليومية التبادلية وصولا إلى الثقة في الحكومات وهي ما تسمى «الثقة السياسية» في المؤسسات وممثلي الشعوب من البرلمانيين والمسؤولين سواء تحصّلوا على هذه المسؤولية وهذا التمثيل بالتعيين أو بالانتخاب الشعبي، ولانعدام الثقة أسبابها في كل مستوى من المستويات السابقة أكانت شخصية أم وظيفية أم حكومية عامة، إلا أن التحولات المادية المستنزفة طاقات الشعوب ومواردها وحتى إنسانيتها أحد أهم أسباب انكماشها حدّ تلاشيها على كل الصُعُدْ.

الثقة التي ترومها هذه المقالة اليوم هي الثقة في الحكومة ومؤسساتها وممثليها، خصوصا مع تعالي وتيرة التشكيك وارتفاع منسوب السلبية في كل ما يتصل بسعي الحكومة لتغيير الواقع وتحسين ظروف الحياة دفعا بالتنمية وبإنسانها إلى أفضل الممكن توظيفا للمتاح من الموارد مع قراءة واعية لتحديات الواقع وتغيرات المستقبل.

بداية لا بد من الاتفاق على أن أزمة الثقة في الحكومة ليست أزمة محلية ولا حتى عربية وحسب، بل هي أزمة عالمية تعاني منها كل دول العالم بلا استثناء وفقا للدراسات العالمية واستقصاء آراء الشعوب؛ فأفضل الحكومات في تبني مقومات كسب الثقة بالكاد بلغت نسبة مرضية لدى مواطنيها كما هو الحال للحكومة السويسرية مثلا، كذلك لا بد من معرفة أن هذه الثقة لا تبنى فجأة كما أنها لا تتلاشى فجأة، بل تمر بمخاضات كثيرة وتحديات مرحلية وصولا لكسبها أو فقدها. وإن كانت شعوب العالم قد اجتمعت قبل عام 2020 على فقدان ثقتها في أدنى مستوى لها على الإطلاق في حكوماتها اعتقادا منها أن الحكومات نصيرة المتنفذين اقتصاديا و»لوبيات» التجارة العالمية على حساب مواطنيها وأمانهم الاجتماعي وفقا لمؤشر قياس الثقة» إيدلمان» العالمي، لكن هذا المؤشر ارتفع قليلا خلال 2020 بسبب أزمة كورونا وافتراض الشعوب «مبدئيا « أن الحكومات تسعى لحمايتهم وضمان استقرارهم صحيا، إلا أن هذا المسوّغ سرعان ما تهاوى مجددا مع التحديات الاقتصادية الناتجة عن الأزمة واستنزاف الضرائب والأعباء الحياتية رصيد ثقة الناس في الحكومات، وربما زاد من سرعة وتيرة تناقص هذا الرصيد المتضاربُ من التقارير والأخبار التي ترجح أن حتى أزمة كورونا قد استُغلّت سياسيا واقتصاديا لأهداف نفعية تتعلق بشركات الأدوية عالميا والحروب البيولوجية ضد الشعوب التي تهدف إلى تقليل أعداد سكان الكرة الأرضية!.

وبعيدا عن دقة مؤشر «إيدلمان» أو عدمها فإن ما لا يمكن الاختلاف حوله هو انكماش وتناقص ثقة الشعوب في الحكومات عموما، وإذ بلغ هذا اليقين مداه لدى الجميع فلا بدّ من تساؤل حول أهمية الثقة في الحكومة؛ هل لثقة الشعب في الحكومة أهمية وجدوى أصلا؟ هل فقدان هذه الثقة مؤثر حضاريا أو معرقل لحركة التنمية مرحليا؟ والإجابة يقينا تبنى من خلال أهمية العلاقة بين الحكومة والشعب في أن الحكومة في تعريفها هي نظام أو مجموعة من الأفراد الذين يحكمون مجتمعا منظما، وتتألف الحكومة عادة من الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وهي (أي الحكومة) الوسيلة التي يتم من خلالها تطبيق السياسات التنظيمية وتحديد القواعد والقوانين، وعليه فإن الحكومة خادمة وميسرة ومسيّرة لكل ما من شأنه تنظيم حياة الشعوب وعلاقاتهم وأدوارهم في المجتمع عمليا وفقا لقوانين وأنظمة وضعت لإداراة هذه العلاقات وشراكاتها، كما أن الشعوب هي المستهدفة المخدومة في سعي الحكومة وعملها وتخطيط أهدافها وبلوغ رؤاها، كل ذلك يجعل هذه الثقة بين الطرفين (الذين هم ليسوا إلا طرفا واحدا في الحقيقة، فما أولئك الحكوميون إلا أفراد المجتمع أولا وآخرا) أمرا بالغ الأهمية، فحيثما وجدت هذه الثقة استطاع الطرفان بناء جسور من التفاهم واستقراء الواقع، وصياغة الأهداف وتخطيط مشاريع الدول استراتيجيا وتنمويا من وإلى إنسانها الشريك المسؤول عن هذه الشراكة المساهم في وضع أهدافها، ثم تنفيذ مستلزمات هذه الأهداف، إضافة إلى الشراكة كذلك في التقييم والمحاسبة وإن لزم الأمر تحمل ما قد تنتهي إليه هذه الخطط المشتركة من نقاط قصور أو مكامن خطأ أو عدم مناسبة لتحديات المرحلة.

زعزعة ثقة شعب ما في حكومته أمر تراكمي يبنى على مهل لكنه ينفجر في لحظة، وغالبا ما تكون هذه اللحظة هي التماس مع دخل المواطن أو ضماناته لحياة كريمة كما حدث مع الشعب الفرنسي في شهر مارس الماضي حين طالبت أحزاب المعارضة بحجب الثقة عن الحكومة خلال أزمة قانون التقاعد المشروع الذي طمح إليه الرئيس الفرنسي لكنه لم ينل دعما لا على مستوى القاعدة الشعبية؛ حيث تظاهر ملايين الفرنسيين منذ بداية العام ضدّه، ولا على المستوى البرلماني الذي بلغ حد المطالبة بحجب الثقة. من الجيد أن يحتكم أي قانون جديد في تشريعه إلى فترة من الديناميكية التي تسمح باستقراء نتائجه الأولى، ودراسة جدواه على كل الأصعدة ثم اعتماده أو تغيير بعض جزئياته، أو تطويره أو حتى استبدال به آخر أكثر قدرة على تحقيق الديمومة ورضا الناس، فئاتٍ مستفيدة منه مستهدفة في تشريعه.

أخيرا؛ لا بد من بناء وتعزيز الثقة المتبادلة بين الحكومة والشعب من خلال الثقة في الكفاءة عندما تقدم الحكومات خدمات عامة تحقق رضا مواطنيها، كما تُبنى عبر القيم العليا في النزاهة والانفتاح وممارسة السلطة من أجل المصلحة العامة دون ميل لفئة معينة أو انتصار لإشباع فئة محتكرة أو متنفذة على حساب الأغلبية، هذا من جانب الحكومة أما من طرف الشعب فواجبه المشاركة والمراقبة والملاحظات التقييمية دفعا بأهداف التنمية إلى تحقق أو صياغة أهداف جديدة توافقا مع تحديات أي مرحلة من مراحل البناء بعيدا عن السلبية المحبطة المعطلة لإنتاجية الفرد وعمل المؤسسات. كذلك فإن عدم الالتزام بالقانون والعمل لصالح فئة دون غيرها يُفضي إلى تآكل الثقة، وحصول شرخ في العلاقة بين المؤسسات والمواطنين إلى درجة يصعب معها عمل المؤسسات، كما يصعب احترامها واحترام قراراتها والدفع بإنتاجية موظفيها إلى أعلى المستويات وصولا لتنمية حقيقية مبنية على الشفافية والشراكة الحقيقية سعيا لوطن أجمل وتناغم مأمول بين الحكومة والشعب.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية