سياسات الحماية الاجتماعية وفكرها..

22 يوليو 2023
22 يوليو 2023

تشكِّل الحماية الاجتماعية مجموعة من الأدوات والسياسات الموجَّهة للوقاية من المخاطر والحد من التحديات التي تواجه أفراد المجتمع نتيجة للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا فإنها تهدف إلى العدالة والمساواة والسلام، فهي جزء من العقد الاجتماعي الذي تلتزم به الدولة قانونيا تجاه مجتمعها حفاظا على حقوقه وتقديم أفضل ممارسات التنمية المستدامة العادلة، من خلال إعداد برامج وأطر قائمة على مبادئ أساسية هي المواطنة، والمشاركة، والشمولية، والعدالة، والتنمية؛ والتي تمثِّل أسس الحماية الاجتماعية وقاعدتها الراسخة.

فحماية حقوق المواطنين أحد أهم تلك الأسس التي تقوم عليها سياسات الحماية الاجتماعية، الهادفة إلى العدالة والمساواة بينهم في الحقوق والواجبات، إلاَّ أن مسؤولية هذه الحماية تحتاج دوما إلى مشاركة بين مؤسسات الدولة كلها سواء أكانت القطاعات الحكومية أو الخاصة أو المدنية، من أجل تطوير منظومة هذه الحماية وتنفيذها وتقييمها؛ فهي فعل مجتمعي لا يقوم على الدعم المالي وحسب بل هي منظومة متكاملة تقوم على التشاركية والدعم المتبادل بين أفراد المجتمع ومؤسساته جميعا، إذ لا يمكن أن تتحقق إلاَّ وفق المساندة والتوافق المجتمعي، والشمولية التي تستند إليها هذه المنظومة، التي تشمل الفئات التي تحتاج إلى تلك الحماية من ناحية، وتأخذ في الحسبان شمولية نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية من ناحية أخرى.

إن الحماية الاجتماعية تهدف إلى تحقيق التنمية البشرية المستدامة، والارتقاء بأفراد المجتمع، وقدرتهم على مواجهة تحديات الحياة، خاصة تلك الفئات الهشة التي تحتاج إلى الحماية من خلال تأمين الاستقرار والشعور بالأمان المجتمعي والرفاه، ولهذا فإن منظومة الحماية تُسهِم في الحفاظ على تلك التنمية وتطويرها من أجل دعم العيش الكريم للأفراد وتمكينهم من الإسهام الفاعل في التنمية الوطنية، من خلال تعزيز انتمائهم الوطني وتطوير قدراتهم ومهاراتهم التي تدعم إمكاناتهم المهنية وبالتالي الارتقاء بمستوى معيشتهم.

فالحماية الاجتماعية لا تتعلَّق بتوفير الدعم المالي للمستفيدين من برامجها وحسب، بل ببناء القدرات وتطوير المهارات التي تُسهِم في التنمية البشرية المستدامة للأفراد، ولن يكون ذلك سوى عن طريق تطوير منظومة السياسات الداعمة لها، والقائمة على مشاركة الأدوات الأساسية والنماذج العلمية والمهارات اللازمة لصياغتها وتنفيذها وتقييمها، إضافة إلى بناء التوافق مع القطاعات المتعددة، لضمان إسهامها الفاعل في دعم تلك المنظومة وفق رؤية وطنية قائمة على دعم التنمية البشرية وتمكينها، حتى تتمكّن الدولة من توسعة برامج تلك المنظومة وتطوير سياساتها.

ولقد حرصت عُمان في ظل النهضة الحديثة على إيجاد منظومة حماية اجتماعية آمنة، تضمن توفير الحياة الكريمة للمستحقين، مع ضمان تعزيزها ببرامج تنمية بشرية تدريبية وعلمية. ولعل تطوير تلك المنظومة بما يتوافق مع المتغيرات والتحديات الحديثة، ويتواءم مع الأهداف الوطنية والتطلعات المستقبلية للدولة، إضافة إلى توفير حياة كريمة أفضل للمواطنين كان أهم تلك الأهداف التي سعت من خلالها الدولة إلى تحديث منظومة الحماية الاجتماعية وفق منهجيات أكثر قدرة على استيعاب التطوُّر الحضاري والانفتاح العملي من ناحية، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه المجتمع من ناحية أخرى، ولهذا جاءت المنظومة الحديثة للحماية الاجتماعية لتتَّخذ منعطفا جديدا في آفاق التنمية البشرية في عُمان.

لقد اتسمت هذه المنظومة بالشمولية والعدالة والتشاركية وتعزيز المواطنة ضمن إطارها العام سواء من حيث تلك المنافع المادية التي اعتمدتها الدولة لدعم الطفولة والمرأة (الأرملة والمطلقة) وكبار السن والمعوقين وغيرهم من الفئات، أو من خلال التأمين الاجتماعي، الذي لا يشمل تأمين كبار السن والعجز والوفاة والإصابات وحسب، بل يقدَّم آفاقا واسعة لبرامج تلك التأمينات من خلال سياسات الادخار ونمو الأجور وغيرها. إن هذه المنظومة تتميَّز بالشمولية وفتح الفرص أمام أفراد المجتمع ليستطيعوا التخطيط لمستقبل أسرهم وفق برنامج تأمين مستدامة.

إن برنامج الحماية الاجتماعية الذي اعتمدته الدولة، لا يقتصر على الفئات الهشة وحسب، بل يشمل فئات المجتمع كلها، بما يضمن تمكين الأفراد وفتح فرص تحسين مستوياتهم المعيشية، وتطلعاتهم العملية، ولهذا فإن السياسات التي اعتمد عليها هذا البرنامج تطمح إلى تحقيق الرفاه الاجتماعي، الذي تهدف إليه الرؤية الوطنية عمان 2040، من خلال رفع المستوى الاقتصادي للأُسر، ودعم الفئات التي تحتاج إلى الدعم والتمكين، إضافة إلى الإسهام الفاعل في تحقيق النتائج والأهداف للقطاعات التنموية الأخرى؛ ذلك لأن فتح آفاق التأمين الاجتماعي وإعادة النظر في حساب المعاشات التقاعدية وفق رؤية تستوعب المتغيرات العملية الحالية والمستقبلية، سيمنح الأفراد والمؤسسات الحرية أكثر في اختيار أنماط الأعمال وسيساعد في فتح فرص العمل والتدريب، مما سيشكِّل قوة تنموية داعمة.

إضافة إلى ذلك فإن دعم دخل الأُسر وتنمية آفاق التأمين الاجتماعي المستقبلي، سيدعم زيادة إنفاق الأسرة؛ فكلما تعددت مصادر الدخل، وإنتاجية الأفراد، زاد الإنفاق، وبالتالي كانت له آثار إيجابية على الاقتصاديات المحلية، والتحولات النقدية الاجتماعية، ولهذا فإن منظومة الحماية الاجتماعية تقدِّم برامج ذات أثر اقتصادي تنموي مستدام، يضمن تمكين الأسرة، ويدعم رفاهها وفق برامج ذات أنماط مرنة.

ولأن منظومة الحماية الاجتماعية لها تأثير واسع على القطاعات التنموية المختلفة؛ فإن إيجاد حماية للطفولة يشكِّل فارقا مهما، ليس فقط لأهمية الأطفال في المجتمع باعتبارهم مستقبل الوطن، بل لأن الاهتمام بهذه الفئة يعدُّ عتبة اجتماعية واقتصادية، لما يشكِّله ذلك من دور في بناء التحولات المستقبلية في التعليم والصحة والأمن الغذائي، فهو اهتمام يكشف الرؤية المستقبلية التي يتأسَّس وفقها مفهوم المواطنة، والقدرة على تشكيل برامج تنموية داعمة لهذه الفئة لما لها من أهمية مجتمعية ووطنية من ناحية، ولما تتركه من أثر مستدام له تأثير إيجابي على القطاعات التنموية كلها من ناحية ثانية.

إن سياسات الحماية الاجتماعية التي تؤسسها الدولة، تدل على حرصها لبناء منظومة مجتمعية ممكَّنة، قادرة على ترسيخ مبدأ المواطنة، إلاَّ أن تلك السياسات تحتاج دوما إلى الدعم المقابل من أفراد المجتمع أنفسهم، في سعيهم المستمر لإيجاد وسائل وسبل تمكين، يستطيعون من خلالها تأسيس أنماط عمل وفرص لزيادة دخولهم، ويسعون دوما إلى تنمية قدراتهم ودعم مهاراتهم بالتدريب والتعليم، بما يفتح أمامهم آفاق الأمان والاستقرار المجتمعي، ويزيد من فرص رفاههم ويعزِّز مستوى معيشتهم.

فالحماية الاجتماعية وإن اتسعت آفاقها، وإن حرصت الدولة على شموليتها وعدالتها، فإنها تساعد في فتح الآفاق وتأمين الحد الملائم للحياة الكريمة، لكن يبقى لدى أفراد المجتمع الخيار بتنمية تلك المنظومة، واستثمار فرصها وبرامجها من أجل الارتقاء بالمستوى المعيشي، وزيادة الدخل، وتمكين القدرات، لهذا فإن منظومة الحماية الاجتماعية يجب النظر إليها باعتبارها فرصا وبرامج لترقية أنماط الحياة، وتحسين مستوى الدخل، بما يضمن التأثير الإيجابي لتلك المنظومة على مستوى الرفاه الاجتماعي.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة