المقاربات الحوارية.. فهم النص أو مغالبات لفظية؟
يُنْظَرُ إلى المقاربات الحوارية على أنها مجموعة من الأفكار المتصارعة، قد تتوافق، وقد تتصادم، ولذلك أسعى من خلال هذه المناقشة إلى الوقوف على ما يذهب الفهم في مجمل العلاقات القائمة بين مجموع المقاربات الحوارية القائمة بين الناس، وهل هناك علاقات موضوعية بينها، أم أنها أغلبها مجرد ثرثرات لا قيمة لها؟ وإلى ماذا تسفر نتائج هذه المقاربات المستمرة طوال الأربع والعشرين ساعة؟ وهل الناس فعلا يعوون مسؤوليات أحاديثهم وحواراتهم، أم هي كما يقول زهير بن أبي سلمى: «رأيت المنايا خبط عشواء من تصب، تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم»؟. مع اليقين أنه من المستحيل الوقوف على كل المقاربات الحوارية القائمة بين الناس، فالأحداث تختلف، والمواقف تختلف، والثقافات تختلف، والنوايا تختلف، فهناك الغمز واللمز، وهناك «فغض الطرف أنك من نمير، فلا كعبا بلغت ولا كلابا» وهناك ما تخفي الصدور، وهناك اقتناص الفرص، وهناك النوايا المبيتة، وهناك الترصد، وهناك المخادعات، وهناك الاتفاقات، وهناك وغور الصدور، وهناك حماقات الألسن، وهناك ما لا يخطر على بال من الأحقاد والشحن النفسي «لو اطلع الناس على ما في قلوب بعضهم البعض لما تصافحوا إلا بالسيوف». ولكن مع كل هذه الصورة التشاؤمية تبقى هناك منافذ للكلمة الطيبة، وللنية الحسنة، وللحوار الآمن، فمهما يكن من أمر، يبقى الإنسان كائنا اجتماعيا بلا منازع، وهذه الاجتماعية هي التي تروضه، فتجعل منه منسكا تشرئب إليه الأعناق فتجد فيه الرضا والاطمئنان.
تكثر في المجالس العامة المقاربات الحوارية بين مختلف الأطراف، وقد تنشب اختلافات بين المتحاورين في زاوية ما من زوايا المجلس، فتتحول إليهم الأنظار، وتكثر التخمينات، وتتلهف النفوس لمعرفة ما حدث، وقد تبدأ مرحلة مقاربة المفاهيم والظنون، والشكوك، ومن هذا الموقف أو ذاك الذي يحدث كثيرا بين أحضان هذه المجالس، تثار كثيرا من القصص المبالغ فيها، والتخمينات المجانبة للحقيقة، ولا يستبعد إطلاقا أن تنسج قصصا خيالية لم تحدث، فالمهم هنا على ما يبدو، أن تحل مجموعة من المقاربات تنتصر لشيء ما يسمى حوار حدث بالفعل، وليس مهما كثيرا أن تعكس، فيما بعد مجموعة القصص المروية الحقيقة المطلقة لما حدث، وعند التوقف عند هذه الصورة، هل يمكن القول: إن هذه إشكالية موضوعية فيما تؤول إليه مجموعة المقاربات الحوارية التي تحدث بين مجموعة من الناس، يقبل فيها ما لم يقع أصلا من الأحداث؟ أما أن هناك محتكما أصيلا يجب أن يحول دون هذا الكم من هذه المقاربات حتى لا تتحول المسألة لمشروع من الثرثرة غير المقبولة التي ليس من شأنها إلا المبالغة الممقوتة في حقيقة الحوارات بشكل عام؟ فإذا اعتبر الصدق والأمانة هو المحتكم الأصيل، فمن عنده الشجاعة ليقول صدقا، وسط هذا الكم الهائل من الأقاويل المبالغ فيها، خاصة وأن هذه الأقاويل ستكون متداولة على نطاق واسع، حيث يصعب الجزم بحقيقتها؟ أتصور أن المسألة ليست هينة.
مما قرأت في هذا الجانب، وأثار انتباهي النص التالي: «تقوم علاقة المؤرخ بالقارئ على أساس استراتيجية الإقناع والتدليل بالحجة، ومن ثم فالتاريخ هو مادة حكائية قابلة للنقض والمراجعة والبرهان، في حين أن السرد الحكائي الخيالي هو استحضار خيالي لحدث ماض، وخطابه هو محض زعم وافتراء، والأدب في النهاية ضرب من ضروب الكذب واللعب. فالقارئ منذ البداية يعرف أن ما يقرأه هو مجرد خيال، بذلك لا تقوم علاقة الأديب بالقارئ على أساس الحجاج والإقناع بل على أساس المواءمة بين عالم النص المتخيل وعالم القارئ الواقعي»، سرديات بديلة قراءة في النظرية والتطبيق مجلة نزوى، يناير 2011م. وبهذه النتيجة التي أعتبرها شخصيا «صادمة» والمستخلصة من بين أهم المقاربات الحوارية القائمة على الرصانة والجدية، والاحترام المتبادل بين القارئ وكاتب النص أيما كان نوع هذا النص، فإن في ذلك دلالة على أن مجمل المقاربات الحوارية القائمة بين الناس، تسودها علاقات الشك وعدم اليقين، وهنا أستحضر مقولة يرددها الناس لمجمل الأخبار التي تنشرها الصحف على سبيل المثال: «كلام جرايد» واليوم تنضم إلى الجرائد -وفق النص أعلاه- كتب التاريخ، وكتب الأدب، وأن العلاقة القائمة بين مختلف هذه الأطراف كلها، بما فيها أحاديث العامة لا تخرج عن كونها «مواءمة بين عالم النص المتخيل وعالم القارئ الواقعي، إذن هو نوع من التكيف، أو التوافق، وفيه ما فيه من المجاملة والمراعاة، وجبر الخواطر، وليست مقارعة حجة بحجة، ودليل بدليل، ووفقا للنص أعلاه أيضا، أين تذهب مقولة: «النص للحياة»؟ هناك من يرى أن المقاربات الحوارية هي نوع من العصف الذهني غير الخاضع لتنظيم معين، وهو ما تمارسه اليوم وسائل التواصل الاجتماعي، حول قضايا مختلفة مطروحة، وما يميز هذه المقاربات الحوارية هو تمايز الثقافات، واختلاف الانتماءات الثقافية، وتباين المستويات المعرفية، ولذلك يمكن أن يتداخل أي شخص بـرمي «نكتة» ربما قد لا تكون بذات صلة مباشرة لفكرة الحوار، ولكنها تعمل وكأنها فاصل إعلاني، كما هو الحال عندما يتحلق مجموعة من المشاهدين ليشاهدوا حدثا ما، أو فيلما، أو مسلسلا، حيث يكون الاندماج بصورة مطلقة، فإذا القائم على عملية الاتصال يفاجئك بـ «إعلان تجاري، أو خبر عاجل، أو بمنظر طبيعي سياحي، فهذا بذلك يتداخل معك بمقاربته الحوارية «الإعلان» وهو بذلك يتقصدك مع سبق الإصرار والترصد، وليس فقط ليذهب بك إلى شيء من الترفيه، تقبله أو ترفضه، فذلك أمر آخر، ولذلك فالمقاربات الحوارية لا تضمن الاتفاق المطلق بين المجموعات المتحاورة، لأن كل مجموعة تسعى إلى تحقيق أو الوصول إلى غاية مختلفة عن الأخرى، وهل ثمة ضرورة لأن يدار حوار لفهم أكثر لهذه المقاربات؟ أقول: نعم، وإلا كيف يمكن فهم ما يدور في الأذهان من مشاكسات فكرية مختلفة، ومنها قد يستفاد، ولذلك فهناك من يتعمد أن يشاكس في مجموعة حوارية، ليس لأن من طبعه المشاكسة، ولكن يريد أن يثير حفيظة البعض أو حتى الكل، فيخرج بمعلومة، أو موقف، أو توجه، «لحاجة في نفس يعقوب» كما يقال، أو تحقيق مصلحة ما، كما هو حال الإعلان التجاري، أو الإعلان التربوي، أو الإعلان التوعوي.
من المقاربات الحوارية هي ما تصنف ضمن الحوارات الأخلاقية والتربوية، ومجمل هذه الحوارات تذهب إلى حيث النقاء أكثر منه إلى التضليل والاستغلال، وذلك لأن هدفها تربوي بالمطلق، مع انتفاء الربحية في بعديها السياسي أو المادي، حيث النظر هنا إلى الإصلاح، والإصلاح من الغايات السامية التي يسعى إلى تحقيقها الجميع، إلا الاستثناء؛ وحالات الاستثناء واردة في كل المشروعات الإنسانية في هذه الحياة، وميزة هذا النوع أن يديره أناس متخصصون في مجالات التربية والسلوك المختلفة، وقد تتعمد بعض الأساليب السياسة في المقاربات الحوارية، منهج التضليل، والغاية تحقيق هدف سريع، أو ترسيخ وتأصيل الإيمان بفكرة ما، والتسليم المطلق بها لأنها تنبني عليها خطط، وبرامج قد تكون طويلة الأمد، وهذا ما نلحظه في بعض البرامج السياسية، حيث يحدث فيها ما لا يحدث في غيرها من حيث الانفعالات المبالغ فيها، ومن حيث بيان المواقف المؤيدة أو المعارضة، ومن حيث الوضوح في الانتماءات السياسية غير المعلنة، ولذلك قد نسمع أن متحاورا ما، قد خرج من محطة التلفزة إلى التحقيقات، وربما قد يتعرض للاغتيال قبل أن يكمل مسيرته إلى منزله.
ومع كل ما سبق، تبقى المقاربات الحوارية مشروعات إنسانية، فالإنسان هو الفاعل الحقيقي فيها، هو من يقيمها، وهو من ينهيها، أكانت تحت أجندات مقصودة، أو أكانت هكذا وفق ما هو معلن كفطرة إنسانية يهمها كثيرا أن تقول وتتحدث، وتفضفض، ومع أن كل مشروع حواري قائم لن يخلو يقينا من فائدة، أو من غصة تدمي القلب، أو من حرج شديد قد يبكي العين، أو من كلمة جارحة يبقى تأثيرها ردحا من الزمن تتوغل بين مفاصل النفس، فتحرج جَلَدِهَا، وصَبْرِها.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
