أخبرني قصتك لأصنع قراري
في أكتوبر من عام 2022م، احتفلت مؤسسة تدريب الكلاب الإرشادية للمكفوفين في كاليفورنيا بالذكرى الثمانين لتأسيسها، نجحت المؤسسة غير الربحية في تيسير الحياة اليومية لعملائها، وفي ذات الوقت تمكنت من تعزيز الإدماج المجتمعي لذوي الإعاقات البصرية، وقادت حملةً واسعة النطاق للدعوة إلى إدخال إصلاحات في السياسات المحلية، مثل السماح بارتياد المطاعم بصحبة كلاب الإرشاد، سعيا وراء تغيير النظرة العامة إلى المكفوفين، بدأت هذه المؤسسة كحلمٍ مشترك بين جيل المؤسسين، الذين أدركوا الحاجة لمساعدة الجنود الجرحى العائدين من الحرب العالمية الثانية وهم فاقدو البصر، استقطبت الفكرة عددا من المتطوعين، وأُعلنت المؤسسة رسميا في عام 1942م، حينما سئل قادة العمل عن سر نجاح المؤسسة التي ستكمل بعد عقدين من الزمن قرنا كاملا، أجابوا بأن السردية المؤسسية وراء صمود ونجاح العمل رغم كل التحديات.
إذن دعونا نسأل أنفسنا: هل مهارة السرد القصصي ضرورية للقيادة الناجحة، وهل تؤثر السردية الاستراتيجية على الأداء المؤسسي؟ إن السرد القصصي في الإجمال هو تلك الأداة التي تخاطب عواطف المتلقي، وليس إدراكه العقلاني فقط، وتمتلك قدرة التغلب على الحواجز العقلية التي تحول دون استقبال الأفكار الجديدة، وهي بذلك أهم موجهات التعليم، والتعلم، والتوعية، ونقل المعرفة، وتعكف الأدبيات الحديثة في مسارات القيادة والإدارة على استكشاف الصلة بين القيادة الناجحة، والسردية المؤسسية من زاويا مختلفة، مما يعني بأن هناك أبعادا هامة للسرد القصصي يمكنها إرشاد الجيل الجديد من قادة العمل، فنحن البشر نميل بطبعنا إلى الاهتمام بالقصص، وهي تجربة افتراضية يعايش فيها المتلقي خبرة صاحب القصة عن طريق التقاط المعاني، والنماذج، والتفسيرات، والعلاقات الضمنية المخبأة في حيثيات السرد، وبذلك يتم إنتاج معرفة جديدة تناسب معطيات الواقع.
على المستوى المؤسسي تنتج السردية الاستراتيجية من إعادة صياغة واقع المؤسسة، لتعكس أهدافها الرئيسة، ونقاط قوتها، وقيمها، وفلسفتها في إدارة ثروتها البشرية، وعناصرها التنظيمية، ويمكن للقائد توظيف السردية الاستراتيجية من أجل تحقيق مجموعة من الأهداف المركزية وأهمها: التخطيط الموجه نحو الغايات الاستراتيجية العُليا، ورسم السيناريوهات والرؤى، وشرح الأفكار، وبناء المجتمع الوظيفي وفرق العمل، وتحسين مستوى الاتصال المؤسسي داخليا لتسهيل تبادل المعرفة الضمنية، وإيجاد قيم مشتركة، وإنشاء هويات مهنية جماعية، ورفع القدرات الإبداعية، وتشجيع الابتكار، وبناء الثقة مع الشركاء، والمتعاملين، وأصحاب المصلحة، وباستقراء واقع المؤسسات التي تمتلك سردية استراتيجية مُفعلة، فإن معدل التسرب الوظيفي، ورحيل الكفاءات يكون متدنيا، لأن الموظفين مدركون بوعي الغاية من عملهم، مما يولد لديهم شعورا قويا بالدوافع الأخلاقية لمهامهم، ويجنبهم الوقوع في العزلة الحتمية للحياة التنظيمية الروتينية.
تعالوا نعود للمؤسسة الأمريكية المعنية بدعم فاقدي البصر، ففي مرحلة التأسيس لم تكن هناك حاجة لوضع سردية مؤسسية، حينها قام العمل على أكتاف المؤسسين، والمتطوعين مدفوعا بالشغف والرؤية الموحدة، والحلم النبيل المشترك، وسهولة معاينة واقع الحاجة لعملهم مع عودة ضحايا الحرب لديارهم، ومع مرور الوقت بدأ الطلب يتزايد على خدمات المؤسسة، وذلك من قبل مختلف فئات المجتمع من ذوي الإعاقة البصرية، فأنشئت مدرسة متكاملة لتدريب الكلاب الإرشادية للمكفوفين، ثم ظهرت أهمية الترويج لخدمات المؤسسة مع تنامي شريحة المستفيدين، وبدخول الجيل الثاني من الموظفين والمتطوعين، كان لا بد من مشاركة أحداث وتاريخ التأسيس، لتأصيل الشعور العميق بأن كل مهام العمل تتمحور حول تلك الخدمة الإنسانية السامية لمساعدة المكفوفين، وكان لذلك دور كبير في إشاعة الإحساس بالفخر من الانتماء للمؤسسة، التي عبرت حدودها الوظيفية، وألهمت مؤسسات حكومية وأكاديمية وربحية، وتجاوزت الحدود الجغرافية لتلهم جميع دول العالم.
وقد تظنون بأنها ربما نجحت لأن هدفها في الأساس هو هدف إنساني يلامس قلوب الناس، ولكن في الواقع نجد أن التوظيف المتقن لسردية المؤسسة هو جوهر القضية، فهناك الكثير من المؤسسات غير الربحية التي تأسست في نفس الفترة الزمنية، واستهدفت كذلك تداعيات الحرب العالمية الثانية، إلا أنها واجهت تحديات في كسب الثقة المجتمعية، وإبراز دورها، وتلاشت من الخريطة المؤسسية بعد انتهاء الهدف المباشر من إنشائها، أما مؤسسة كاليفورنيا فهي تعمل حتى يومنا هذا، وتؤدي رسالة استراتيجية عميقة؛ وهي تسخير العلم والمعرفة والمهارات في الإدماج الكامل لذوي الإعاقات البصرية، وهي تواكب التطورات العلمية والابتكارية بشكل حثيث، فالجيل الحالي من الخدمات معززة بتقنيات الثورة الصناعية الرابعة، وهذا يعكس المرونة والرشاقة الاستراتيجية في القيادة والإدارة، وهي التي مكنتها من الاستجابة الذكية للمتغيرات الديموغرافية لدى الفئات المستهدفة التي تطورت عبر الزمن، وتحولات السوق، واجتياح التقنيات المتقدمة.
هذا على المستوى الاستراتيجي الشمولي، وأما على مستوى الأداء الفعلي للمؤسسة، فيلعب السرد القصصي دورا أساسيا في تأطير العمليات والمهام، فهو سلوكٌ قيادي فعال في تحفيز التغيير الإيجابي، ورفع الإنتاجية، فالسردية هنا بمثابة بوتقة التفاعل بين قائد العمل وفريقه، فيها يتم مشاركة قصص النجاح، أو الإخفاق السابقة، وتبادل الخبرات الشخصية، والمهنية، والتطلعات المستقبلية، وهي لا تقتصر على القصص، وإنما تشمل سرد المقارنات، أو حتى النكات الفكاهية ذات المغزى، التي يتم تداولها في التفاعلات اليومية، وإن كانت هناك احتمالات قائمة لعدم وجود تأثيرات إيجابية حاسمة في انتهاج السردية كأسلوب قيادي، فهي قد لا تكون فعالة بنفس القدر لجميع الأغراض الإدارية، وكل الفئات المستهدفة، إلا أن الغالب الأعم هو أن السردية الاستراتيجية تعزز الثقة والالتزام المتبادلين، لا سيما إذا ترافقت مع امتلاك قائد العمل لسمات شخصية معززة للسردية، مثل الذكاء العاطفي العالي، الذي من شأنه إلهام فريقه، وتشجيعهم على اتباع سلوكيات توطد دورهم كنموذج يحتذى به، للتأثير بشكل أكبر على الأعضاء الذين هم أقل اهتماما بالسردية المؤسسية.
وهذا يقودنا للنقطة المركزية، وهي أنه لا يشترط أن تحوي السردية الاستراتيجية النقاط المثالية فقط لتحدث التأثيرات المطلوبة، ولكن يجب أن تكون واقعية بالقدر الذي يعكس الصورة الأقرب لحقيقة عمل المؤسسة، وأهدافها، وطموحها، مما يتيح الوقوف على التحديات بشكل جِدّي وتشاركي، فالهدف الأسمى من إعداد السردية كأحد ممارسات استراتيجيات الاتصال هو الخروج برؤية واضحة عن قضايا المؤسسة، وتحدياتها الملحة في الوقت الراهن، ومدى تأثيرها على مستقبل العمل، وليس إثارة ردود فعل عاطفية فقط من الطرف المتلقي، حينها يمكن للسرية أن تساهم في إعادة إنتاج المفهوم العملي للعلاقة بين قائد العمل، والفرق التنفيذية، ومحاولة فهم التفاعل بينها، وبين العمليات المؤسسية من جهة، ومن جهة أخرى بناء الديناميكيات التي تسهل الكشف عن المشكلات العميقة، والمواضيع غير المعروفة لدى قادة العمل، أو المخفية عنهم، أو المُتجاهَلة على نطاق واسع.
وقد أدرك علماء الاستراتيجية، وقادات الفكر الإداري الدور المركزي الذي تلعبه السردية المؤسسية في بناء الهويات التنظيمية، التي هي بدورها أحد الأصول الاستراتيجية المهمة التي يمكنها حل التحدي المزدوج لجميع المؤسسات، وهي ضمان إلهام الموظفين، وتعزيز الولاء والانتماء المؤسسي داخليا، والنجاح خارجيا في جذب المستثمرين، والجهات المانحة للدعم، ورفع رضا المتعاملين والمستفيدين وعموم الشركاء، والإدارة التقليدية إما أن تركز على الجوانب التنظيمية الداخلية، أو على الصورة والسمعة الخارجية، ولكن لا تركز على كليهما، وتحقيقا لهذه الغاية فإن الالتفات لإعداد السردية الاستراتيجية هو أولى خطوات تحقيق التوازن التنظيمي في معالجة التحديات الداخلية والخارجية، مع الأخذ في الحسبان انتقاء أسلوب السردية بشكل عملي، وكبصمة الهوية التي تعكس أداء المؤسسة، وإدراك الغاية من السياق السردي كعملية إعادة صناعة الأهداف والتطلعات، كما هو الحال في السرديات الريادية الموجهة للمستثمرين، فهي جميعها تستهدف التقليل من عدم اليقين الذي يحيط عادةً بمبادرات الأعمال الجديدة، ولكن هناك رواد أعمال قادرون على توظيف السردية لانتزاع التمويل لمبادرات عالية الخطورة، وهناك آخرون لا تسعفهم السردية على إقناع أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار في مبادرات جيدة ومضمونة العوائد، الفيصل هنا هو ذلك الدور الحاسم للسردية في عملية تشكيل التوقعات، وتوجيه اتخاذ القرار، ويتكرر المشهد مع هواة جمع المقتنيات الفنية، فهم في الواقع يشترون السردية وراء القطعة الفنية، وذلك على غرار المقولة: «أخبرني قصتك لأصنع قراري».
