حتمية عودة الكاتب إلى بلدته

04 يوليو 2023
04 يوليو 2023

شاركتني كاتبة عربية معروفة تجربتها في الهجرة والزواج من أجنبي، ثم وجدَت نفسها خبرا في الصحافة المحلية لبلادها عن زواجها من يهودي صهيوني، الأمر الذي أثار سخريتها لسنوات إذ إن زوجها كان كاثوليكيا أصلا، بعد إنجابهما لأولادهما، عانيا طويلا من أن أكبر أبنائهما مصاب باكتئاب ثنائي القطب في حالته القصوى، شعرت الأم بأن هذه هي جيناتها، وأن طفلها لم يفعل شيئا سوى أنه ورث أمه وموقفها من العالم، لطالما أشعرها هذا بالذنب. اضطرت هذه الكاتبة وزوجها لدفع كل مدخراتهما ورهن البيت الذي يعيشان فيه، وتأجيل خطط التقاعد اللامعة حتى إشعار آخر، في مقابل أن يتعالج ابنهما في مصحة إنجليزية ممتازة، أو أن يتحسن على الأقل. لم تبدُ تعيسة وهي تقول ذلك، فيما أصرت أن هذا دفعها لوضع خطط جديدة والاستمرار في العمل، ومحاولة مد الصلات مع العالم العربي، وفرصة لها بعد أن قطعت علاقتها به إلا في اللغة التي تكتب بها كتبها. وفي كتابها الأخير كانت تتمشى في القاهرة بحثا عن إجابات لسؤال معلّق منذ التسعينيات أحست الآن بأنه يضغط عليها أكثر من أي وقت مضى.

بعد لقائي بها كنت أفكر في كتبها، فيما لو كانت قد بقيت في بلدها، ترى هل ستكتب كل تلك التجارب الأدبية التي يعدّها الكتاب في العالم العربي اليوم نموذجا لهم، إذ إنها إحدى أهم الكتّاب المعاصرين في العالم العربي، إن لم يكن في العالم، خصوصا مع ترجمة كتبها مؤخرا للغات عديدة. إن عملها يقتضي دوما تفكيك الراسخ في المتن الثقافي العام وإعادة النظر فيه. إذن هل يحكم علينا بقاؤنا في المكان نفسه أن نكتب عن أشياء بعينها؟ ترى لو كانت بلادي تدفعني للكتابة عن شيء ما فماذا سيكون؟ القرية؟ السحر؟ التموضع في المدينة؟ إننا جميعا نعرف بعضنا أو كما نحب أن نقول (عمان غرفة وصالة)؟

زادي سميث الكاتبة البريطانية قبل أيام، كتبت عن الهاجس نفسه، لقد هاجرت من لندن، وعندما كانت تسأل فيما إذا كانت قد ضاقت ذرعا بلندن أو ملت منها ببساطة، كانت تجيب بأن كل ما في الأمر أنها لا تريد كتابة رواية تاريخية! مع أنها تستدرك بطبيعة الحال ضاحكة بأن هنالك أسبابا تتعلق بظروف أسرتها وزواجها الذي اضطرها لمغادرة لندن فعلا. لكنها تتوقف مليا عند السبب الذي قدمته ساخرة، فتقول: إن الإنجليز عموما مفتونون بالماضي حتى أن رواية «ميدل مارش» رواية تاريخية، ولطالما كانت سميث منذ أن كانت طالبة في الجامعة مع زملائها يعدون الرواية التاريخية محافظة فنيا فينفرون منها. ولأنها آمنت بأن الرواية تعني أن تأتي بالجديد فقد اعتقدت أنها لا تحب الرواية التاريخية، وسرعان ما اكتشفت المنطق الخادع في هذه الفكرة، بعد أن قرأت نماذج مدهشة لهذا النوع من الكتابة، إذ إن كثيرا من الروايات التاريخية مكتوبة بطريقة ساحرة، بعضها يقف موقف التساؤل من الماضي وبعضها قادر على تغيير وجهة نظرك تغييرا جذريا لا عن الماضي فحسب بل عن حاضرك أيضا.

كتبت زادي سميث قصة تاريخية بالفعل عام 2011، وظل هاجس هذا الشكل من الكتابة هاجسا لها بينما تكبر عائلتها في نيويورك وكانت تراقب زملاءها الذي يعملون على روايات تاريخية، وتأخذ كل وقتهم وجهدهم، هي لا تحب كتابة الملاحظات وتجميع الأفكار بشكل مسبق، إنها من ذلك النوع من الكتاب الذين يجلسون على مقاعدهم ليكتبوا ما يفكرون به. كانت تقول لنفسها «إن رواياتك طويلة بما يكفي حتى وهي لا تدور حول أي شيء، فما الذي سيحدث لو قمت بتضمين بعض الحقائق الواقعية، ابتعدي سميث، ابتعدي» كانت فكرة الرواية التاريخية تلاحقها، وأحسّت أنها بذلك تستعيد غريزتها في أن تكون «ديكنزية» كما لو أن هذا محتم عليها لأنها إنجليزية.

ديكنز كان يظلّل شعورها بالقلق هذا، إذ إنها ومع ولادتها في إنجلترا فقد نشأت تحت وطأة تأثيره الهائل والمرهق، كان ديكنز في كل مكان، في المدرسة والمكتبة ورفوف مكتبة البيت. أثر ديكنز في الحياة العامة في بريطانيا، عمل في السياسة وعمل على تغيير قانون العمل وقانون التعليم وحتى قانون حقوق النشر. لطالما كان ديكنز بطل الطبقة العاملة، وتم استخدام ديكنز بعد وفاته في التلاعب به بصفته أيقونة في قطاعات عديدة لتسجيل نوع من النقاط السياسية لصالح البلاد. كان ديكنز في المسلسلات والسينما، بل إنه وصل إلى مسرح الدمى! كان ديكنز لزادي سميث مسرحيا جدا وأخلاقيا بصورة كبيرة، ومتحكما بما يكتب بصورة رهيبة، ولم تتمكن سميث من التخلص تماما من تأثيره، على الرغم من رغبتها الكبيرة بذلك، ظلت سميث بغض النظر عن محاولتها للهرب من هالة ديكنز فإنها وفي الخفاء تجد أن كل الطرق تؤدي إليه.

تتحدث سميث عن كتابتها حول انتفاضة جمايكا لتجد أن ديكنز يوقع عريضة حول هذه القضية، حتى عندما كانت تقرأ عن العبودية في أمريكا، وجدت ديكنز حاضرا في الهوامش، بدأت سميث في الترحيب بديكنر كمجنونة، أوه مرحبا تشارلز!

وجدت سميث نفسها تكتب مع بداية جائحة كورونا رواية من القرن التاسع عشر، وعادت لبريطانيا قبيل الإغلاق الكلي، وفي وقت النزهات والتسكع في المدينة، كانت ترفع رأسها صوب المداخن والأفاريز أي نحو القرن التاسع عشر، بدأت بمطاردة المقابر! إذن لقد عادت إلى لندن وهي تكتب رواية تاريخية. ووجدت أنها - ولكي تقص روايتها على نحو واقعي - لا يمكنها التخلص من ديكنز وحضوره، إذ كان يقفز من كل مكان كممثّل واقعي في كل تلك الأحداث التي كانت سميث مهتمة بالكتابة عنها في روايتها الجديدة، أو كما عبرت «لقد كان ضيفا منتظما على العشاء». تؤمن زادي سميث أن علينا في الكتابة أحيانا أن نتخلى عن رغبتنا في السيطرة والتحكم بمسار القصة، علينا ببساطة أن نذهب إلى حيث يتم توجيهنا، والذي غالبا ما يعود بنا إلى المكان الذي أتينا منه ككتاب! وبعد محاولات عديدة للفكاك من ديكنز والهرب منه، استسلمت لحضوره وتركته يتغلغل في صفحات قصتها، بالطريقة نفسها التي كان حاضرا بها في القرن التاسع عشر، كان ديكنز موجودا في كل شيء في الهواء والكوميديا والتراجيديا والسياسة والأدب، كان مستبدا في بعض الأحيان ومبهجا في أحيان أخرى، تماما كما كان في كل الحياة، كما كان في حياة زادي سميث نفسها. بدا لها أن ديكنز ومن يشبهونه يدفعوننا للجنون لأننا مدينون لهم أكثر بكثير من قدرتنا على تخيل ذلك أو الاعتراف به.

تكتب سميث أنها بعد سنوات من كتابة قصتها التاريخية الأولى التي ذكرتها في مقدمة هذه المقالة، أنهت روايتها التاريخية أخيرا، أغلقت جهاز الكومبيوتر الخاص بها، واعترفت أنها لم تكن ستكتب ما كتبته لولا ديكنز! وقررت أن تحج إلى كنيسته في ويستمنستر، ووقفت بجانب قبره، أحست بديونها الكثيرة تجاه ديكنز لكنها أملتْ أن تكون قد سددتها كاملا بالفعل، عادت إلى البيت وكانت تريد التخلص من ديكنز لكنها ما إن فتحت قناة BBC حتى وجدته هناك، أوه مرحبا تشارلز ووداعا تشارلز! ومرحبا تشارلز مرة أخرى!

أمل السعيدية كاتبة وقاصة عمانية