المبادرات الصيفية الشبابية

17 يونيو 2023
17 يونيو 2023

«إذا تمكنت آلة الزمن أن تسلِّمك عنصرا واحدا لا يقدَّر بثمن من المستقبل، فسيكون هو مجموعة من القرائن بشأن ما سيُعمل في العام 2023، وما يجب أن نصلحه الآن قبل أن يزداد سوءا».

بهذا يبدأ تقرير (رؤى الشباب من أجل المستقبل 2023)، الصادر عن منصة قمة مستقبل الشباب، في تقديمه لتلك الرؤى المستقبلية التي يتطلَّع إليها الشباب، والتحديات والفرص المتاحة لهم؛ فبعد الكثير من العقبات التي واجهت الشباب خلال السنوات الخمس الأخيرة، بدأت الحياة تكشف عن العديد من الفرص والسيناريوهات الخاصة بالتكنولوجيا الاجتماعية، ووسائل الإعلام الحديثة، والصحة والرفاه، والمدن والتنقل، والثقافة والترفيه، والأعمال التجارية، والتعليم، وهي سيناريوهات يشوبها الكثير من القلق على الرغم من أنها تبدو واعدة ومشرقة، خاصة في ظل الصراعات الجيوسياسية والتغيرات الإقليمية والعالمية على الصعيد السياسي والاقتصادي.

إن الرؤى المستقبلية للشباب تتمحور ضمن تلك السيناريوهات فيما يُطلق عليه التقرير (صندوق أدوات المستقبل)، وهو ذلك الصندوق الذي يحوي الفرص والتحديات والحلول المقترحة؛ فما يتطلَّع إليه الشباب يرتبط بالتطورات التقنية والابتكارات، والمبادرات المرتبطة بالموارد الطبيعية والمواطنة، ولهذا فإن الفرص تفرض مجموعة من المبادئ ذات الصلة بالتقدم الاجتماعي والتنمية الوطنية، التي يرى من خلالها الشباب قدرتهم على إحداث فروقات تنموية يشكِّلون بها مستقبلهم، ويستطيعون بواسطتها مواجهة التحديات التي تواجههم، بحيث يكونون أكثر صلابة وأسرع استجابة.

لقد أثَّرت الأعوام الماضية على سياقات الحياة في المجتمعات، ولعل الثقافة والترفيه واحد من تلك القطاعات التي غيَّرت من أنماط كينونتها، سواء على مستوى الممارسة أو حتى على مستوى الاعتقاد بأهميتها وطريقة النظر إليها، ولأن هذا القطاع الحيوي يفرض نفسه في حياة المجتمعات والشباب بشكل خاص، فإنه يؤسس لمجموعة من المتغيرات التي حرصت المجتمعات على الاستجابة إليها ضمن إعادة هيكلة البناء الاجتماعي الذي يتسارع نموه وقدرته على التطور، خاصة في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي الذي أصبح جزءا أصيلا في القطاعات الاجتماعية والإبداعية الثقافية. إن تأثير ذلك كله في حياة الشباب يدفع إلى استقصاء مستقبل المبادرات الشبابية الحالية، وقدرتها على الاستدامة من ناحية، والإمكانات التي تقدمها للشباب في ظل تلك المتغيرات من ناحية أخرى.

يكشف تقرير قمة مستقبل الشباب، تلك السلوكيات التي أدت إلى تغيرات في قطاعات الثقافة والترفيه فيما بعد الجائحة والأزمة الاقتصادية، فلم تعد الثقافة بأنشطتها وقطاعاتها الإبداعية كما كانت قبل خمس سنوات من الآن؛ إذ أثَّر التباعد والبث الإلكتروني والافتراضي للإبداعات الثقافية، إضافة إلى منصات التواصل الاجتماعي، ومنصات البيع الإلكتروني وغير ذلك، في أنماط التفاعل التي يبديها المستهلك أو المتابع أو المستفيد من القطاعات الإبداعية، وبالتالي فإن الثقافة اليوم عليها أن تقدم نفسها باعتبارها أنماطا جديدة قادرة على التشكُّل وفق متطلبات المرحلة، كما عليها الإفادة من تلك المتغيرات التقنية والتطورات الهائلة التي يقدمها الذكاء الاصطناعي لتكون أكثر قربا من الشباب، وأسرع ولوجا إلى قلب الابتكار والإبداع.

ولأن الثقافة ترتبط بالهُوية من ناحية وبالترفيه من ناحية أخرى، فإن قدرتها على التحوُّل والتغيُّر لا بد أن تكون محسوبة ضمن مجموعة من المعطيات المجتمعية، إلاَّ أن المهم هنا هو ما يمكن أن تُحدثه من تأثير في نفوس الشباب، وما يمكن أن هؤلاء الشباب في سبيل ترسيخ قيمها وتأصيل مفاهيمها وفق متطلبات المرحلة الثقافية التي تتأسَّس على المجتمعية والتأثير الاجتماعي المحلي والإقليمي والعالمي؛ إذ أن مفاهيم الثقافة اليوم لا يمكن أن تكون محلية وحسب، بل أصبحت مفاهيم كونية، تتمحور ضمن مجموعة من المتغيرات، تحيل إلى إمكانات فهم تلك المفاهيم وممارسة الفعل الثقافي بناء عليها.

إن وعي الشباب بمفاهيم الثقافة وربطها بالمتغيرات المحلية كفيل للحفاظ على الهُوية الوطنية؛ ذلك لأن هذا الوعي سيظهر ضمن ما يمكن تقديمه من مناشط وممارسات، قادرة على التوازن والحفاظ على القيم والأخلاق من ناحية ومواكبة التطورات التقنية من ناحية أخرى، ولهذا فإن المبادرات الثقافية والترفيهية عليها أن تتأسس وفق مجموعة من النُظم المجتمعية والتقنية التي تضمن ذلك التوازن، وتقدِّم المفاهيم الثقافية باعتبارها أنماط مجتمعية ذات بُعد محلي وتطلعات عالمية.

ولأن المبادرات الثقافية والترفيهية تكون أكثر إلحاحا في فصل الصيف من العام؛ فإنها تفسح إمكانات دراسة تلك المبادرات وقدرتها على تقديم ما يجذب الشباب وما يقدِّم مستويات عالية من الوعي والفهم لأهمية الثقافة وقدرتها على تنمية قدرات الشباب وانتمائهم الإيجابي ومواطنتهم، وبالتالي ترسيخ الهُوية الوطنية، لذا فإن المبادرات الصيفية التي تقدمها المؤسسات الثقافية والاجتماعية ينبغي أن تقوم على مفاهيم الابتكار والإبداع، فلا يمكن أن تقدِّم مناشط وفعاليات جبلت على تقديمها منذ سنوات طويلة، غير قادرة على التجديد والتحديث بما يتناسب مع التطورات والتغيرات المتسارعة.

والحق أن الدور الكبير الذي تقوم به الأندية في المحافظات، وما تقدمه من مناشط في القطاع الترفيهي، هو دور محوري ومهم، ينطلق من أهمية هذا القطاع ودوره في تنمية الشباب، إلاَّ أن تلك المناشط عليها أن ترتبط بالثقافة والهُوية والتطورات التقنية، ذلك لأنها مسؤولة عن الممارسات الفعلية التي تضمن صقل مواهب الشباب وتمكين دورهم الفاعل والإيجابي في مجتمعهم، ولهذا فإن نوعية المبادرات وإمكانات توفير البيئة الخصبة المناسبة لممارسة الأنشطة والمشاركة الفعلية، سيوفِّر للشباب فرصا للمشاركة بأفكارهم ومقترحاتهم، وسيتيح لهم إمكانات الاطلاع على أهم الآفاق المستقبلية للتقنية والتكنولوجيا.

إن الآفاق التي تتيحها التقنية تحمل مجموعة القرائن التي تمكِّن الشباب من رسم تطلعاتهم وقدرتهم على فهم الواقع وتغيراته، واحتواء التحولات المجتمعية وفق ما يتميزون به من إبداعات وإمكانات ومواهب من ناحية، وما يأملونه ويتطلعون إلى تحقيقه لمجتمعهم من ناحية أخرى، لذا فإن المبادرات الشبابية التي تقدمها المؤسسات خاصة في المدن والحواضر المنتشرة في المحافظات، عليها أن تعتمد على التجديد والتطوير، والقدرة على مواكبة المتغيرات؛ فالعالم المنفتح الذي يعيشه الشباب، يجب أن يتواكب مع ما يُقدَّم لهم من خدمات ومناشط وفعاليات وأمكنة تفاعلية، حتى يمكن أن تتحقَّق الأهداف التي من أجلها تُنفذ تلك المناشط.

لقد حضي الشباب وما زالوا بالرعاية والعناية من قبل الدولة، ولعل هذا الاهتمام اليوم يتعاضم دوره، ويتطوَّر فكره، ويتجدَّد خطابه، حتى يتمكَّن من فتح آفاق مستقبلية واعدة للشباب، يستطيعون من خلاله المشاركة في فعل المواطنة الإيجابية، والمساهمة في التنمية المستقبلية المنفتحة للدولة، فالخطاب والفعل يجب أن يتجاوز الحاضر، ويتطلَّع إلى المستقبل، وهكذا هو الفعل الثقافي التنموي الذي يجب أن يكون محلقا نحو آفاق التطورات الهائلة التي يشهدها العالم.

إن طاقة الشباب هبة، على المجتمع تنميتها، وفتح أبواب التطلعات المستقبلية التي تتوهَّج ضمنها، لتكون طاقة إيجابية فاعلة، مساهمة في بناء هذا الوطن..

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة