بين الحروب بالوكالة وحل الأزمات

06 يونيو 2023
06 يونيو 2023

ظهر مصطلح الحرب بالوكالة حديثا من خلال استخدام القوى الكبرى أطرافا محلية في إطار الصراعات الإقليمية أو حتى المحلية، والهدف الأساسي أن تلك الدول الكبرى لا تريد أن تتورط مباشرة في أي مواجهة عسكرية تكون لها نتائج وتداعيات مباشرة على أمنها القومي أو حتى جرها إلى حرب مباشرة لا ترغب في خوضها. كما أن هناك حروبا بالوكالة ظهرت خلال العقود الأخيرة، وهي المشاركة في تلك الحروب بشكل غير مباشر بل وتحرض الأطراف الإقليمية أو المحلية في استمرار تلك الحروب والصراعات ليس بهدف الحرص على مصالح تلك الأطراف المتحاربة ولكن الهدف الأساسي هو تحقيق مصالح متعددة قد تكون اقتصادية وهو الهدف الأساسي أو مصالح استراتيجية أو أمنية أو بهدف زعزعة الاستقرار في إقليم جغرافي محدد لمواجهة قوى كبرى أخرى، ومن هنا سجلت الحروب والصراعات ما بعد الحرب العالمية الثانية ظهور الحروب بالوكالة، ولعل عددا من الحروب في دول جنوب شرق آسيا كانت في ظاهرها حروبا محلية، ولكن كانت واقعيا حروبا بالوكالة، فالحرب الكورية التي تواصلت منذ ١٩٥٠ حتى ١٩٥٣ كانت حربا بالوكالة كانت الولايات المتحدة الأمريكية أحد الأطراف والاتحاد السوفييتي السابق أحد الأطراف الأخرى، وانتهت تلك الحرب بتقسيم كوريا إلى شطرين كما هو الحال الآن، وهما كوريا الجنوبية ذات النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكوريا الشمالية ذات النظام الاشتراكي اليساري.

ويمكن قياس ذلك على عدد من الحروب حتى الحرب الأهلية في لبنان التي استمرت أكثر من عقد ونصف كان تدعم من قبل جهات خارجية مع الأطراف المتحاربة علاوة على حروب اليمن المتعددة والتي اندلعت بعد الاستقلال، وحتى بعد الوحدة كما أن الحروب والصراعات في إفريقيا بشكل خاص كانت في ظاهرها محلية، ولكن في حقيقة الأمر كانت تدعم خارجيا من القوى الاستعمارية السابقة كفرنسا في غرب إفريقيا، ويمكن قياس ذلك على عشرات الحروب في أمريكا اللاتينية.

ومن هنا فإن المشهد السياسي الحالي هو ترجمة تاريخية للحروب بالوكالة فالحرب في اليمن التي تواصلت على مدى ثماني سنوات كانت بالفعل حربا بالوكالة، ولعل ملامح السلام التي تميز الساحة اليمنية الآن هو عودة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض، التي بذلت فيها الدبلوماسية العمانية والعراقية جهدا محوريا علاوة على الصين. كما أن الحرب الروسية الأوكرانية والمتواصلة الآن أكثر من عام هي نموذج صارخ على الحرب بالوكالة، حيث المواجهة غير المباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية من جانب وروسيا الاتحادية من جانب آخر. وهي قمة الحرب بالوكالة ولعل التصريح المعروف لوزير الدفاع الأمريكي أوستن في بداية الحرب هو أن الدعم العسكري واللوجستي اللامحدود لأوكرانيا من أمريكا والغرب هو بهدف إضعاف روسيا الاتحادية اقتصاديا بالدرجة الأولى وإدخالها في حرب استنزاف لسنوات في حين أن روسيا الاتحادية تدرك تلك الحقيقة من خلال منع تمدد الناتو على حدودها خاصة مع أوكرانيا، حيث الارتباط العرقي وحتى فيما يخص الشراكة في الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو وكييف. ومن هنا فإن أي متعمق في مشهد الحروب بالوكالة يمكنه تأمل الحرب الروسية الأوكرانية بكل مشاهدها العسكرية والاقتصادية والاستخباراتية والإعلامية والنفسية، حيث إن أوكرانيا تحولت، وهذا شيء طبيعي إلى واجهة في إطار الصراع الأكبر الاستراتيجي بين واشنطن والحلفاء في الغرب وروسيا الاتحادية ومعها بعض التحالفات مثل بيلاروسيا والدول التي ترى أن المصلحة تحتم لجم المشروع الأمريكي الغربي ضد روسيا الاتحادية، حيث إن العلاقات الروسية الصينية شهدت تطورا لافتا وكذلك الأمر مع إيران ودول البريكس التي تضم روسيا الاتحادية والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند وهي المجموعة التي قد تكون النواة الأولى للنظام القطبي المتعدد في مواجهة نظام القطب الأمريكي الأوحد الذي جاء بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وانتهاء عصر القطبية الثنائية. إذن الحروب بالوكالة هي حروب حقيقية تدفع بها قوى ودول خارجية بهدف تحقيق مصالح محددة ولعل الحرب في السودان بين الجيش السوداني من جانب، وقوات الدعم السريع، هي واحدة من الحروب بالوكالة، وإن بدأت ملامح تلك الحرب محلية، وهناك عقوبات أمريكية تم فرضها مؤخرا على كيانات وشركات تدعم الأطراف، كما أن إشعال الحروب الإقليمية أو المحلية عادة ما يكون لصالح أطراف خارجية رغم الطبيعة الإيديولوجية والقبلية لتلك الصراعات المحلية حتى الحرب في أفغانستان خلال الغزو العسكري السوفييتي السابق كانت حرب استنزاف بالوكالة لعبت فيها الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية والمجاهدون الأفغان دورا محوريا حتى انسحبت القوات السوفييتية. وكانت إحدى نتائج تلك الحرب المكلفة اقتصاديا وعسكريا تفكك الاتحاد السوفييتي السابق بعد سنتين، وكانت هناك مصالح قد تكون متناقضة بين المصالح الاستراتيجية الأمريكية التي كانت تهدف إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي السابق والسيطرة والهيمنة على القرار الدولي، وبين الدول العربية والمجاهدين والأفغان الذي كان هدفهم الأساسي هو تحرير أفغانستان من القبضة الشيوعية السوفييتية. ومن هنا فإن ظاهرة الحروب بالوكالة أصبحت ظاهرة تستخدم من قبل القوى الخارجية لتحقيق أهداف محددة، ويصعب على تلك القوى الدخول مباشرة إلى تلك الحرب فعلى سبيل المثال لا يمكن تصور أن تعلن الولايات المتحدة الأمريكية دخولها الحرب مباشرة مع أوكرانيا ضد روسيا الاتحادية؛ لأن ذلك يعني بالمفهوم الاستراتيجي حربا نووية بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية على غرار ما حدث في الحرب العالمية الثانية مع اختلاف طبيعة الحلفاء والظروف التاريخية. وهذا أيضا ينطبق على الدول الغربية، ومع ذلك فإن تزويد أوكرانيا بكل أنواع الأسلحة الحديثة والدعم المعلوماتي والاقتصادي هو في حقيقته حرب بالوكالة ضد روسيا الاتحادية، وقد أعلن الرئيس الروسي بوتين أكثر من مرة بأن المواجهة أصبحت الآن مع الدول الغربية، وهو يقصد هنا دول حلف الناتو. ومن هنا فان تدحرج الحرب الروسية الأوكرانية وإطالة أمدها هو هدف أمريكي غربي لاستنزاف روسيا الاتحادية. وفي تصوري أن إطالة أمد هذه الحرب قد ينزلق بالأمور إلى نفق مظلم خاصة أن التلويح بالسلاح النووي من قبل عدد من المسؤولين الروس يعطي مؤشرا بأن روسيا الاتحادية قد تجد نفسها، وفي لحظة فارقة في مرحلة اللاعودة. وعلى ضوء ذلك فإن إيجاد حوار مباشر بين موسكو وكييف لحل الخلافات هو لمصلحة أوكرانيا وروسيا الاتحادية بالدرجة الأولى لأن الجغرافيا والتاريخ المشترك والتداخل الاجتماعي والديني هي أمور لا يمكن تجاهلها علاوة على المصالح المشتركة. فالحرب ليست الخيار الأمثل لروسيا الاتحادية وأوكرانيا وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا لها أهدافها الاستراتيجية فيما يخص إضعاف روسيا الاتحادية، كما حدث في عقد الثمانينيات من القرن الماضي في أفغانستان فإن أمام القيادة الروسية ذلك المشهد. ومن هنا فإن مبادرة تنوي إندونيسيا وغيرها من المبادرات لإطلاق الحوار بين موسكو وكييف هي فرصة لإحلال السلام وتفويت الفرصة على الغرب لتحقيق تلك الأهداف الاستراتيجية ومنها إضعاف روسيا الاتحادية التي شكلت قلقا للولايات المتحدة الأمريكية خلال عقدين، حيث أصبحت موسكو أحد اللاعبين الكبار في سوق الطاقة وتطورت علاقتها بالصين ودول مجموعة بريكس وبالتالي فان الحروب بالوكالة تندلع ليس فقط لأسباب محلية ولكن لضرورات خارجية.