أردوغان.. والسياسة الإسلامية

29 مايو 2023
29 مايو 2023

أكتب المقال والشعب التركي ينتظر الجولة الثانية للانتخابات بتاريخ: 28/ 5/ 2023م، بين رجب أردوغان ومنافسه الأوفر حظا بعده كمال أوغلو، ومن خلال تأريخ أردوغان وحزبه «العدالة والتنمية»؛ الحاكم منذ عقدين، وسياسته الناجحة في تركيا، ومن معطيات الجولة الأولى بتاريخ: 14/ 5/ 2023م، حيث حصل أردوغان على نسبة 49.5%، في حين؛ حصل أوغلو على 44.9%، فأتوقع فوز أردوغان بالدورة القادمة (حسمت الانتخابات بفوز أردوغان). وبناء عليه؛ فالمقال.. يحاول فهم «السياسة المدنية السياسية» ومآلها، حيث قسّمتُ النظام السياسي في الإسلام أربعة أطوار: طور التأسيس السياسي، وطور السياسة الشرعية، وطور الإسلام السياسي، وطور السياسة المدنية الإسلامية.

أهمية دراسة «حزب العدالة والتنمية» أنه المثال الوحيد لآخر الأطوار، وأردوغان هو الوحيد الذي حكم عبر هذا الحزب. لقد قلت في مقال «مستقبل الإسلام السياسي»: («حزب العدالة والتنمية» التركي.. يحتاج لقراءة متأنية. لكن أضع هنا بعض المؤشرات الدالة على تحوله؛ منها: إنه لم يأتِ ثورةً على النظام العلماني الذي سبقه، بل اعترف به، واعتمد أتاتوركَ رمزا مؤسسا للدولة التركية الحديثة. وآمن بالديمقراطية وعمل بمقتضاها. وقوّى الدولة التركية ولم يعادِ قوميتها؛ بل أكدّ على مركزيتها، وربط بينها وبين الإسلام بجعل الخلافة العثمانية رمزا سياسيا للمسلمين، وأنها وقفت ضد «الغرب الصليبي». وتبنّى الحزب النظام الرأسمالي؛ مع محاولة تهذيب توحّشه بالقيّم الإسلامية. وعمل على التصالح مع القيّم الغربية، وسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ولم يقطع علاقته بإسرائيل. ولم يستكِن للميكنة الغربية؛ بل دفع بتركيا لأن تكون مساهِمة إقليميا في البناء السياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي).

لمعرفة رؤية أردوغان وحزبه؛ ينبغي تتبع شخصية نجم الدين أربكان (ت:2011م) الفكرية والسياسية، والتي عبّر عنها عمليا من خلال عمله السياسي، منذ «حزب النظام الوطني» الذي أسسه 1970م؛ والمدعوم من التيار النورسي؛ وهو تيار له الدور الأبرز في صياغة التفكير الديني الحديث بتركيا، بتمثّل فكر الصوفي بديع الدين سعيد النورسي (ت:1960م)، وقد وقف الحزب ضد العلمانية بتركيا، وبهذا؛ يجمع في التغيير بين النَفَس الصوفي ومقولات تيار الإسلام السياسي، وقد حُظِر سريعا. وبعد تجارب سياسية مريرة؛ نال أربكان بسببها السجن، أسس 1972م «حزب السلامة الوطني» لينحل 1981م. ثم أسس 1983م «حزب الرفاه»؛ وقد تولى أردوغان خلال حكم هذا الحزب بلدية أنقرة، ومنها بدأ يسطع نجمه سياسيا. حُظر الحزب 1998م بتهمة انتهاك علمانية الدستور. وفي العام ذاته أسس «حزب الفضيلة»؛ ليُحظر بالتهمة نفسها 2001م، وبعد عشرة أعوام توفي أربكان، لكن تلميذه أردوغان قد حلَّ محله عبر «حزب العدالة والتنمية».

بحسب موقع «رئاسة الجمهورية التركية» الإلكتروني.. فرجب طيّب أردوغان.. المولود في 26/ 2/ 1954م بإسطنبول، بدأ طريقه السياسي بالعمل الطلابي، و1976م.. انتُخِب رئيسا للمنظمة الشبابية لـ«حزب السلامة الوطني» في بايوغلو بإسطنبول. ومن خلال «حزب الرفاه» دخل أردوغان المعترك السياسي، وتولى رئاسة الحزب في فرع بايوغلو 1984م، ثمّ رئيسا له بإسطنبول المدينة الكبرى، وعضوا في اللجنة الإدارية للقرارات المركزية للحزب 1985م. وانتُخِب رئيسا لبلدية إسطنبول 1994م. و1997م.. حُكم عليه بالسجن لإلقاء قصيدة من المناهج التعليمية التركية تمجد التراث الإسلامي.

2001م.. أسس أردوغان «حزب العدالة والتنمية»، واختير رئيسا له من اللجنة التأسيسية. وفاز الحزب في الانتخابات التشريعية 2002م بثلثي مقاعد البرلمان، مما أهّله لتشكيل الحكومة بمفرده. و2003م.. تولّى أردوغان رئاسة الوزراء، وبصفته رئيسا للحزب فاز بالانتخابات التشريعية 2007م، فشكّل الحكومة الستين للجمهورية التركية. ثم فاز في انتخابات 2011م. و2014م.. انتخب رئيسا للجمهورية ليصبح الرئيس الثاني عشر في تاريخ تركيا. وعقب اعتماد التعديل الدستوري باستفتاء 2017م، وتمهيد الطريق لإمكان انتماء رئيس الجمهورية لحزب سياسي؛ أعيد انتخاب أردوغان 2017م رئيسا لـ«حزب العدالة والتنمية»، وانتخب رئيسا للجمهورية مجددا 2018م.

خلال مسيرته السياسية الطويلة؛ حقق نجاحا في معظم الملفات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى عُدَّ الأب الثاني لتركيا بعد أتاتورك. ونَقْلَتُه العظيمة لتركيا أشهر من سردها هنا. لكن من أهم ما حققه هو المزاوجة بين العلمانية عقيدة الدولة التي أرسى دعائمها كمال أتاتورك (ت:1938م) مؤسس تركيا الحديثة، وبين الإسلام دين الشعب، وهي معضلة لم تتمكن عموم الدول الإسلامية من حلها.

إن وراء هذا النجاح العوامل الآتية:

- المسار السياسي لتركيا.. فقد كانت إمبراطورية مترامية الأطراف، وسقوطها المدوي جعل ساستها يصرّون على إعادة بناء الدولة على الأرض التركية فقط، فقد أدركوا أن المتغيرات الدولية لا تسمح ببقاء الإمبراطورية العثمانية، ذات عقيدة دينية، فكان التوجه؛ نحو الدولة القومية للحفاظ على الوحدة التركية. ونحو العلمانية؛ لأنها البديل العالمي، ولأن اتخاذ الإسلام عقيدة سياسية للدولة غير مجرّب حينها على أرض المتغيرات، وكذلك للخروج من التصور السلبي للهيمنة العثمانية على العالم الإسلامي، وسعي تركيا للحاق بركب التقدم الغربي. هذا المسار جعل رجب أردوغان يثبت بأن البديل ليس هو العلمانية ولا الإسلام السياسي، بل «المزاوجة البرجماتية» بينهما، التي تصنع النجاح، ولا تصادر المعتقدات.

- الصوفية النورسية المنتشرة في تركيا.. وهي تجربة تحتاج إلى دراسة بذاتها، وما يهمنا هنا هو جانبها السياسي. ورغم أن العلاقة بين التصوف والسياسة قديمة، إلا أن نموذج النورسي جديد؛ ارتكز على «العرفان السياسي»، القائم على الإصلاح السياسي، وليس الوصول إلى الحكم، وهذا فارق مفصلي بين تجربته وبين «الإسلام السياسي»؛ الذي يرى الإصلاح بعد تسنّم منصب الحكم. هذه التجربة أعطت أردوغان رؤية سياسية عميقة وفاعلية نافذة.

- ممارسة أردوغان للسياسة طويلا مع أربكان «أب الإسلام السياسي» بتركيا.. وأربكان رجل عملي، لا يميل للمواعظ العامة. لكن ما يميز رجب أردوغان تهيئه الفكري والعملي للانسلال من عباءة أربكان السياسية، وقدرته بأن يؤسس لفكر سياسي جديد.

- وجود تجارب سياسية ثرية بتركيا.. مثل: تجربة أربكان. وتجربة السياسي المخضرم عدنان مندريس (ت:1961م)؛ المعدوم شنقا ضحية لتجربته المفارقة لغلو الأتاتوركية. وتجربة فتح الله جولن أحد أهم روافد أردوغان الفكريين والسياسيين، وبمساعدة تياره وصل للحكم، وإلى تياره نسبت محاولة انقلاب 2016م. بالإضافة إلى أن العلمانية شاخت في الواقع السياسي؛ ولم تعد تملك إلا صلف العسكر.

- الوضع السياسي العالمي.. سقوط المعسكر الشيوعي؛ وما تركه من فراغ إيديولوجي وسياسي عالميا، وسخط الشعوب من الممارسات العنيفة لأمريكا بالمنطقة خلال حقبة التسعينيات وما تلاها؛ حتى الربيع العربي، مكّن رجب أردوغان من إصلاحاته في الجسد التركي؛ وإنعاش مفاصله، وتمكّن بحذق من استغلال التناقضات السياسية بالمنطقة لصالح بلاده.

لا أدري؛ هل كان رجب طيّب أردوغان يعلم بأنه يؤسس لطور جديد للسياسة الإسلامية؛ فوضع ذلك في أجندته، أم أن مساره العملي هو الذي تولد عنه هذا الطور؟ وهذا يقال عنه قبل الربيع العربي، أما أثناءه؛ فيما يبدو، أصبح الأمر واضحا لديه بأن نموذجا جديدا يتخلّق على يديه لمرحلة قادمة للسياسة الإسلامية، حيث وقف بقوة مع تيار الإسلام السياسي. فقد حانت الفرصة لأردوغان أن يصدّر «نموذجه السياسي» للعالم الإسلامي، وهو ما يراه مناوئوه بأنه «تصدير للعثمانية»، وهذا غير دقيق، فأردوغان يدرك بأن الزمان لم يعد قابلا لتسويق أيديولوجيا شمولية.

إن أردوغان بمقدار نجاحه السياسي داخل بلاده؛ فشل في تصدير نموذجه إلى خارجها. ولاستمراره في الحكم رجع لسياسته القديمة «صفر مشاكل»، وعمل على ترميم علاقاته مع الدول العربية؛ التي تقطعت نتيجة محاولته تلك.