هل انضم الغذاء المحلي إلى الطيف البنفسجي؟
دعونا نعود للوراء، ونتأمل علاقة الإنسان بالغذاء على مر الأزمنة، سنجد بأنه من زهور أقوال وأسئلة الفلاسفة أمثال سقراط وأرسطو وأفلاطون، وحتى ظهور تقنيات الهندسة الوراثية، والاستزراع المختبري للحوم، والطباعة ثلاثية الأبعاد، هيمنت الأبعاد الصحية على الغذاء، إلا أن هذا الاقتران الأزلي بدأ يتقادم شيئا فشيئا، ها قد خرج الغذاء من عباءة الصحة، وشكل ارتباطات استراتيجية مع محاور حيوية عديدة، بدءًا بالاقتصاد والتجارة، والتطورات العلمية والتكنولوجية، وانتهاءً بالفن والثقافة والهوية، وصناعة الحوار والسلام بين الشعوب، وبفضل هذه التحولات المفصلية أصبح الغذاء عموما، والأغذية المحلية على وجه الخصوص في قلب قضايا الاستدامة.
استقطبت الأغذية المحلية الاهتمام العلمي مع تعاقب الثورات الصناعية والتكنولوجية، التي أسهمت في تطوير إنتاج وتداول المنتجات الغذائية عبر الحدود الجغرافية، فارتبطت سلسلة القيمة، وسلاسل الإمداد بالتجارة الدولية، ثم جاءت العولمة والاتفاقيات التجارية لدعم تدويل الغذاء، وتسهيل وصول سكان الكوكب لأنواع مختلفة من الأغذية العالمية، التي نشأت في بيئات وثقافات متباينة، وحفزت هذه الموجة تركيز الباحثين والابتكارين على موضوعات الجودة والسلامة الغذائية، التي تزامنت مع المستجدات، مثل مأمونية الأغذية المعدلة وراثيا، والمنتجات المعالجة بالإشعاع، ومخاطر التلوث بمتبقيات المركبات العضوية، والمعادن الثقيلة شديدة السُمِّية، مثل تراكم الدايكوسين في السلسلة الغذائية، وهذا بجانب مختلف قضايا الأمن الغذائي، وطرق تحصين منظومة الغذاء من الصدمات الخارجية، ومؤخرًا أحدثت جهود الباحثين من فروع العلوم الاجتماعية طفرة نوعية وعكسية في موضوعات الغذاء، حيث أثبتت هذه الدراسات الأهمية الكبيرة والعاجلة في الحفاظ على الغذاء المحلي في مواجهة تدفق العولمة، وذلك كدعامة أساسية للتراث الثقافي غير المادي للمجتمعات والدول، إذ كان ولا يزال الغذاء التقليدي هوية وطنية، وإرثا ثقافيا مشتركا، وفي الوقت ذاته منفعة اقتصادية واجتماعية عامة، ورافدا مركزيا للاقتصاد البنفسجي.
وهذا التوجه المستجد يضع أمام متخذي القرار خيارا استراتيجيا بالغ الأهمية، وهو تضمين الغذاء المحلي في العديد من محاور الاستدامة، وتوجيهه نحو حل التحديات الناشئة، مثل ضمان سلامة وجودة الغذاء عبر سلاسل إمداد محلية قصيرة ومضمونة، ودعم محور الأمن الغذائي بإتاحة الوصول لأغذية محلية تتوفر للمستهلكين بشكل مستدام وبغض النظر عن التحديات الخارجية، والتصدي لاستنزاف الموارد الطبيعية، وتحقيق الاستدامة البيئية، مما يعزز استجلاب عوائد إيجابية في الوقت الحاضر، ولصالح الأجيال القادمة.
فعلى الرغم من حقيقة أننا نعيش في عالم تسوده العولمة، إلا أن الأغذية المحلية والتقليدية لا تزال تتمتع بخواص استراتيجية حاسمة، ولها جاذبيتها وثقلها الثقافي والحضاري والتاريخي، فهي موروث تناقلته الأجيال لتوثيق ذاكرة المكان وأسلوب الحياة، وهي متجذرة في مزيج من الثقافات والأديان والمعتقدات المختلفة، ويغطي التراث الغذائي طيفا واسعا من الجوانب الملموسة والمعنوية، بدءا بالمنتجات الزراعية المحلية والموسمية، والمكونات الأساسية، والوصفات وتقنيات التحضير، وتقاليد تقديم الطعام، ومناسبات التقديم، وآداب المائدة، بالإضافة إلى البعد الرمزي للغذاء المحلي، وارتباطه بالثقافات التقليدية والقصص الشعبية.
أما على المستوى الدولي، وسعيا نحو تقديم فهم أعمق للدور الاستراتيجي للغذاء المحلي من منظور ثقافي وتاريخي، عُقد منتدى اليونسكو العالمي عن «الثقافة والغذاء: استراتيجيات مبتكرة للتنمية المستدامة» خلال الفترة من 12 إلى 13 سبتمبر من عام 2019م، في مدينة بارما الإيطالية، وهي مدينة إبداعية في مجال فن الطهو وتتبع اليونسكو ضمن شبكة التحالف العالمي للتنوع الثقافي منذ عام 2017م، استقطب المنتدى مشاركة واسعة من الباحثين والعلماء والمفكرين والكُتَّاب والمبدعين ومنتسبي قطاعي الضيافة والسياحة، ويعد هذا المنتدى أكبر تجمع دولي عن الغذاء في سياقه الثقافي، من بعد اعتراف منظمة اليونسكو في عام 2010 -ولأول مرة في التاريخ- بالغذاء المحلي باعتباره تراثا ثقافيا غير مادي، واختتم المنتدى بإطلاق «إعلان بارما» التاريخي، الذي نُسب اسمه إلى المدينة التي استضافت هذا الحدث العالمي الكبير، أكد الإعلان على أهمية تقوية الترابط بين الغذاء المحلي، والمعرفة، والثقافة، والابتكار، لكونها محركات أساسية لدعم التنمية المستدامة.
تعويلا على هذه المبادئ، نحن بحاجة إلى التفكير بعمق في كيفية توظيف الغذاء المحلي كأداة تطوير لقطاع اقتصادي وطني داعم للعديد من الصناعات المرتبطة بها، وهي الإنتاج والتصنيع الغذائي، وفنون الطهي، والضيافة، والسياحة، واللوجستيات، والصناعات الثقافية، وريادة الأعمال القائمة على الغذاء، وقطاع التراث الغذائي الثقافي، والفنون الجميلة، والمعارف التقليدية، والبحوث الاجتماعية والإنسانية، وبناء القدرات الوطنية في علوم الغذاء؟ في البدء يجب أن ندرك بوعي كبير بأن إنتاج وإعداد وتقديم الغذاء تُعد تجربة إنسانية عالمية مشتركة، إلا أن كل جزء من هذا العالم يزخر في المقابل بمجموعة متنوعة وغنية من الممارسات الغذائية المتفردة، التي تشكلت على مدى الزمن، بفعل العوامل الطبيعية، والمناخ والمواسم الزراعية، وبذلك فهي تشكل جزءا مهما من الثقافة الوطنية لأي مجتمع، ودعامة كبيرة لتراثها وهويتها، وهنا تكمن الميزة التنافسية لتعزيز الاستثمار في التراث الغذائي، والممارسات الغذائية المرتبطة بالثقافة، وتوجيهها نحو حفظ واستدامة المعارف الوطنية للغذاء، وإرثه التاريخي، ورعاية الابتكار الموجه نحو استرداد الممارسات الثقافية المتجذرة في نظم المعارف التقليدية، والتوعية بقيمة هوية الغذاء كرافد مهم للذاكرة الاجتماعية، والهوية الوطنية، وفي الوقت ذاته هي أداة للحوار بين الثقافات الإنسانية، وبناء جسور الصداقة والسلام.
ووجب أن نتذكر بأن العولمة والتكنولوجيا فرضتا على البشرية الانتقال التدريجي نحو نماذج وأنظمة غذائية عالمية، مما عرَّض المعارف التقليدية للغذاء، التي تم تناقلها من جيل إلى جيل للتهديد بالضياع والاندثار، وهذا يستوجب الالتفات إلى تعزيز الترابط الاستراتيجي بين الغذاء والثقافة، في زخم الانطلاق نحو العالمية والتمدن والحياة العصرية المزدحمة بالتكنولوجيا، ويبدو ذلك ضروريا وعاجلا، لا سيما وأن الممارسات الغذائية المحلية تتميز بطابعها الديناميكي، فهي وإن كانت قد نشأت في بيئتها المحلية بظروفها المتفردة، لكنها تطورت وامتزجت وعبرت الحدود، ونتج عنها ظهور أشكال ثقافية غذائية جديدة كليا، أو أنه تمت إعادة إنتاجها، خصوصا داخل المجتمعات متعددة الثقافات التي تحتفي بتنوعها وتمازج أطياف ثقافاتها، وهنا تبرز أهمية إنتاج المعرفة العلمية الداعمة للأغذية التقليدية والمحلية.
تأتي هذه المعرفة كنواة لدعم ظهور قطاعات اقتصادية إبداعية تستهدف النظم الغذائية التقليدية، ولا تقتصر على قطاعات السياحة والضيافة، وإنما تدمج الغذاء المحلي في الصناعات الثقافية على نطاق أوسع وأشمل، وهذا يتطلب بناء «بنوك معلومات الأغذية التقليدية»، وذلك بتفعيل مسارين مزدوجين، أولهما يركز على دعم تنفيذ الدراسات التوثيقية والتتبعية للمسارات التاريخية والجغرافية التي عبرها الغذاء المحلي، والمسار الآخر يسعى إلى تأسيس بيانات علمية داعمة للابتكار والإبداع، مثل التركيب الغذائي الكلي، والبيانات التركيبية للمغذيات المفيدة، والمواد النشطة بيولوجيا، والتحليل الكيميائي للوصفات التقليدية، مما يفتح نوافذ الابتكار المدفوع بروح الحداثة، مع الاحتفاظ بجوهر الأصالة التقليدية لهذه الأغذية، والأمثلة كثيرة على هذه الابتكارات، وفي مقدمتها «حمية البحر الأبيض المتوسط» المدرجة في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، وهي تركز على السمات الصحية مع الحفاظ على طابعها التقليدي.
وبنظرة فاحصة ومدققة في النجاحات العالمية لن يشق عليك التوصل إلى حقيقة وواقع اتصاف الغذاء المحلي بكثير من السمات الإيجابية التي تجعلها على رأس القطاعات الواعدة لدعم الاقتصاد البنفسجي، وإبراز مدن إبداعية كمختبرات إنتاج المعرفة والابتكار، من أجل استرداد وحفظ المعارف، وتوثيق الهوية الثقافية والاجتماعية، وتوظيفها في الصناعات الإبداعية، وفي سياق تخطيط سياسات فعالة للاستثمار في الغذاء التقليدي.
