من «طريق بوسطن 128» إلى «وادي السيليكون»
بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت الولايات الكبرى في أمريكا بتأسيس قطاع الصناعات القائمة على التكنولوجيا، وذلك بتوظيف ميزة التواجد المكاني لمؤسسات التعليم العالي، والمراكز البحثية، والمختبرات الحكومية، والشركات الإنتاجية معا، وظهرت ثمار هذا التفاعل المعرفي والتقني خلال السبعينيات من القرن الماضي، من خلال الانتعاش الاقتصادي والاجتماعي للولايات التي ضمت مناطق صناعية ومدنا علمية قائمة على الابتكار التكنولوجي، من أشهرها منطقة «وادي السيليكون» في شمال كاليفورنيا، و«طريق 128» في بوسطن اللتان اكتسبتا شهرةً دوليةً كمراكز رائدة للابتكار الصناعي والتكنولوجي، وحققت أداءً متميزا في معدلات التوظيف واستبقاء الخريجين، ودعم ريادة الأعمال العلمية، ورفع مؤشرات النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، وألهمت العديد من دول العالم، وهي لا تزال محط أبحاث المفكرين الاقتصاديين، وفلاسفة التنمية، والمهتمين، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل جاء هذا التطور عفويا وتلقائيا، حيث صادف أن الولايتين كانتا تضما شركات محلية تركز على التطوير التكنولوجي؟ أم أن هذا النجاح أساسه الجهود المتضافرة للجامعات العريقة والمتميزة في الولايتين ومختبراتهما البحثية، والبنية الأساسية والتكنولوجية الفائقة في قطاعي الإنتاج المعرفي والصناعة؟ قد تبدو الإجابة واضحة، فمن البديهي بأن التقدم الاقتصادي المدفوع بالتكنولوجيا لا يحدث عفويا، ولكن هذا السؤال يحمل بعدا استراتيجيا أعمق؛ فهو يطرح جانبا مهما في رحلة تأصيل الابتكار الصناعي في الاقتصاد، وهو حقيقة أن دوافع النجاح قد تتهيأ، وتكون وراء تفوق نموذجٍ ما، وقد تكون نفسها أقوى عوامل الفشل لنموذج آخر، وأن تحقيق مؤشرات الأداء الإيجابية لا يعني بالضرورة دوامها، إذا لم تدعمها مقومات حفظ استدامة المنظومة، وتحصينها من الصدمات الاقتصادية الخارجية، وأن تحقيق الشهرة والريادة لا يعني الغياب الكلي لمخاطر التعثر، وبأن الابتعاد عن التجديد كفيل بأن يهدد بقاء هذه المنظومة الابتكارية، إذن دعونا نقترب أكثر من نموذجي «طريق بوسطن 128» «وتجربة وادي السيليكون»، ونجري مقارنة تحليلية لاستنباط الدروس العميقة، التي يمكن أن تُلهم الأقاليم، والاقتصادات الآخذة في النمو، والتحول الفعال والجذري نحو اقتصاد المعرفة.
تاريخيا، برزت المنطقة العلمية التي سميت «طريق بوسطن 128» في الخمسينيات من القرن الماضي، كمركزٍ للتكنولوجيا الفائقة، واستقطبت المئات من الشركات التقنية الناشئة، لا سيما في الصناعات القائمة على الإلكترونيات، ووظفت أكثر من 250000 مهندس وعالم وفني، وتم إلحاق 75000 منهم خلال الفترة من عام 1975م إلى 1980م أثناء ذروة التقدم العلمي والتقني، التي توجت الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها كوجهةٍ عالميةٍ للابتكار التكنولوجي والتقدم العلمي، وتعويلا على هذا السبق التاريخي تبلور مفهوم المدن الصناعية، والمجمعات الابتكارية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، من بعد نجاح التجربة الأمريكية في تجذير الابتكار عبر الإدارة الحديثة للعلاقات التكافلية بين الجامعات، والقطاع الصناعي، وتوجيه رأس المال الاستثماري إلى تسريع عملية تسويق التكنولوجيا، معلنةً بذلك ظهور الجيل الأول من فلسفة وفكر إدارة الابتكار في مراكز التكنولوجيا الفائقة، التي سيطرت على الأضواء زمنا حتى تم تطويرها بتعاقب الأطر النظرية المنظمة للابتكار، وقد استخدم صانعو السياسات كلا من نموذج طريق بوسطن 128 وتجربة وادي السيليكون كمعيار لتقييم الأداء في دعم الابتكار الصناعي والتكنولوجي، إلا أن هذا البريق تضاءل في أوائل التسعينيات، إذ عانى المنتجون الرئيسيون في كلا المنطقتين من أزمات هيكلية واقتصادية، ففي وادي السيليكون تخلت شركات تصنيع رقائق السيليكون عن حصتها في سوق أشباه الموصلات الإلكترونية لصالح اليابان، بينما واجهت المناطق العلمية في مجمع طريق بوسطن 128 خروج عملائها إلى مراكز إنتاج أجهزة الحاسوب الشخصي خارج المنطقة العلمية.
أحدثت هذه التغييرات ردة فعل مختلفة في النموذجين، واتخذت كل واحدة منهما إجراءات وتدخلات الاحتواء، ومن بعدها تباين الأداء الاقتصادي بينهما بشكل واضح، ففي وادي السيليكون، اتخذت الإدارة منحى التنويع والإحلال، وشهد الوادي ظهور جيل جديد وعصري من شركات أشباه الموصلات والحواسيب، بالإضافة إلى الشركات العريقة القائمة في المنطقة، مثل Intel وHewlett-Packard، مما أعاد النمو الديناميكي للمنطقة بشكل أكثر توجيها وإتقانا، وعلى النقيض من ذلك، أظهرت منطقة طريق بوسطن 128 مبادرات أُحادية الجانب لإيقاف أو التقليل من تراجعها الاقتصادي، وبادرت الشركات بوضع المعالجات بمعزل عن بعضها البعض، وفي وقت لاحق خفتت منظومة ما كانوا يسمونها «معجزة بوسطن»، وفشلت الشركات التكنولوجية الناشئة في تعويض تسريح العمال المستمر في شركات الحواسيب الكبيرة، والقائمة في هذه المنطقة العلمية لعقود طويلة من الزمن.
إذن لماذا تكيَّف نموذج وادي السيليكون بنجاح مع الهزَّات الاقتصادية، وصمد أمام ضغط أنماط المنافسة الدولية المتغيرة، بينما فقد نموذج طريق 128 ميزته التنافسية؟ وكيف أثر هذا التراجع على جاذبيتها كنموذج مرجعي للاستنساخ والتعلم على مستوى دول العالم؟ في البدء يجب الإشارة إلى أن النموذجين متشابهان من حيث الأصول، والتقنيات، والأنظمة الصناعية المتميزة، التي طورتها منذ فترة التأسيس، إلا أن طريقة استجاباتهم للأزمات الاقتصادية خلال فترة الثمانينيات من القرن الماضي، عكست اختلافات عميقة في الهيكل الاقتصادي المحلي، والفلسفة التنظيمية، وثقافة الابتكار، والقدرات الإدارية، هذه الفروقات كانت موجودة منذ البداية، ولكن لم تظهر أهميتها في فترة النمو السريع لهذه المناطق العلمية، وصعودها نحو القمة خلال العقود السابقة، ولكنها كانت ضمن العوامل الحاسمة في تحديد مدى قدرة المنطقة الصناعية على التكيف مع التغييرات الخارجية، ودرجة مرونتها من التقاط روح ريادة الأعمال وتنميتها من جديد، أو تقويضها وإجبارها على التراجع.
إن القارئ المتمعن في تاريخ وادي السيلكون يلمس بوضوح بأن هذه المنطقة العلمية تمثل نظاما صناعيا ابتكاريا تأسس على مبدأ توظيف رأس المال الاجتماعي، ورأس مال العلاقات، كأصول استراتيجية بجانب المعرفة التقنية، والكفاءات البشرية، والبنية الأساسية، مما أتاح لها تطبيق مسارات هجينة لسياسات الابتكار العلمي والتكنولوجي المدفوعة بالطلب على تحسين البيئة الابتكارية، والموجهة بالأهداف الاستراتيجية المركزة، فاكتسب وادي السيلكون ميزة تعزيز ثنائية «التعلم المشترك والتكيف المرن» بين الشركات والمؤسسات المتخصصة ضمن نطاق واسع من التقنيات ذات الصلة، وعملت الإدارة على تشجيع ما أسمتها «الشبكات الاجتماعية الكثيفة»، في محيط سوق العمل المفتوح، وهيأت لها بيئة التجريب والخطأ خلال فترات تنحي التحديات الخارجية، فبدأت الشركات تتنافس بشكل مكثف أثناء عملية التطور والتعلم من بعضها البعض، عبر مختلف أنماط التواصل والتعاون الرسمي وغير الرسمي، مع مراعاة الحدود التنظيمية داخل هذه الشركات، وكذلك الحدود بينها وبين الشركات والمؤسسات الصناعية، والحكومية، والأكاديمية، والبحثية، في المحيط المؤسسي المحلي.
وهذا ما كان ينقص نموذج طريق بوسطن 128 الذي يهمين على نظامها الصناعي عدد محدود من الشركات المتكاملة والمستقلة في ذات الوقت، وتتحكم فيها قيم عدم الإفصاح والولاء المؤسسي في العلاقات بين الشركات وعملائها ومورديها ومنافسيها، وشركائهم المحليين والدوليين، مما عزز الثقافة الجاذبة للاستقرار والاعتماد على الذات، وهذا النمط أسهم في تعميق التسلسلات الهرمية للشركات والمؤسسات داخل المنطقة العلمية، وحافظ على بقاء النهج المركزي في إدارة الابتكار، وبذلك ظل التدفق العمودي للمعلومات والمعرفة التقنية هو النمط السائد، وهذا هو سبب إعاقة تطبيق نهج «التعلم المشترك والتكيف المرن»، ودفع هذه المنطقة نحو وضعٍ غير موات في صناعة تكنولوجية سريعة التطورات.
تُعد تجربة وادي السيلكون، وطريق بوسطن 128 في العقود الماضية، مصدرا معرفيا لا غنى عنه لواضعي الخطط وراسمي السياسات، إذ قدمت التجربتان رؤى عميقة حول المصادر الوطنية، والإقليمية للقدرة التنافسية، وأبرزت أهمية الالتفات إلى المناطق العلمية كبيئات اجتماعية ومؤسسية للإنتاج التقني والمعرفي، وليست نظما صناعية جامدة تحكمها مجموعة من الهياكل والممارسات، وأوجبت إلقاء نظرة ثاقبة للعلاقة المتأصلة بين سياسات الابتكار العلمي والتكنولوجي من جهة، وكفاءة الابتكار في المجمعات الصناعية والمدن العلمية عالية التقنية من جهة أخرى، باعتبارها العامل الأكثر إلحاحًا، والأقرب ارتباطا بطموحات التنمية الاقتصادية المدفوعة بالابتكار، مع التركيز على زيادة السياسات القائمة على الطلب، وذلك بإيجاد موطئ قدم في خريطة الابتكار العالمية، وتحليل المتطلبات الوطنية والإقليمية لموارد الابتكار، وتعزيز تآزر هذه السياسات مع السياسات الأخرى، ومع الأدوات الداعمة لتنفيذها، واستكشاف النماذج المطبقة عالميا والقائمة على الدمج بين عدة مسارات لدعم الابتكار، وإنشاء نموذج قائم على مزيج من السياسات الشبيهة ولكن بخصائص محلية، لتكون قادرة على توليد محركات جديدة للنمو، وتعزز من الكفاءة الابتكارية الوطنية عبر أكثر من مسار استراتيجي.
