الزواج من الأجانب ومسؤولية الاختيار
تفخر المجتمعات بدولها وحكوماتها كلما زادت مساحة الحرية الشخصية التي تمنحها للأفراد، وكلما قدمت الدول ما يثبت ثقتها بأبنائها وشعبها؛ فهذه الحُرية تدعم حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتمكِّن أفراد المجتمع من تحمُّل المسؤولية لاتخاذ القرارات المناسبة، وقدرتهم على دراسة تلك القرارات واتخاذ الأفضل من بينها، ولهذا فإنه كلما زادت مساحات الحُرية تعددت الخيارات، وتمايزت فيما بينها، وبالتالي زادت الحاجة إلى تنمية مفاهيم النقد والتحليل والقدرة على اتخاذ القرارات الأصوب.
ولأن عُمان من الدول التي تحرص على الدوام على زيادة مساحة الحُرية الشخصية وحماية حقوق الإنسان، فإن صدور المرسوم السلطاني رقم ( ٢٣ / ٢٠٢٣ في شأن زواج العمانيين من أجانب)، يأتي ضمن ذلك الحرص والوفاء بأهمية ضمان تلك الحقوق من ناحية، وإعطاء أفراد المجتمع الحرية للاختيار ضمن الحقوق الاجتماعية التي تكفلها الدولة من ناحية أخرى، ولهذا فإن هذا المرسوم له أهمية كبرى وتأثير مباشر في حياة أفراد المجتمع العماني.
لقد نص النظام الأساسي للدولة ضمن المبادئ الاجتماعية على أن (الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتعمل الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها...)، ولهذا فإن المرسوم يأتي تماشيا مع الأهداف الوطنية التي ترعى الأسس الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع، وتُقدِّم الضمانات المناسبة التي تمكِّن الأسرة من القيام بدورها التنموي، الذي لا يمكن أن تقوم به إلاَّ إذا تأسسَّت على مبادئ الاستقرار والتماسك والقيم، وهي مبادئ تتربى عليها الأسرة العمانية ضمن مفاهيم الثقافة العمانية الأصيلة، لذا فإن اختيار الزوجين لبعضهما أحد تلك الضمانات التي تتأسس عليها الأسرة لتستطيع القيام بدورها الفاعل والإيجابي في المجتمع.
إن (زواج العمانيين من أجانب) أحد الموضوعات الحساسة والمهمة على المستوى الاجتماعي، ولعل الإشكالات والتحديات التي واجهتها بعض الأُسر والأفراد الذين قرروا الزواج من أجنبي في السابق، كان له الأثر الكبير على المجتمع، بل وعلى أبنائهم الذين عانوا الكثير جرَّاء ما واجهوه، ولأن هذه المشكلات لابد أن تُحَّل فإن هذا المرسوم يقدِّم حلولا جذرية لتلك القضايا والمشكلات، ليستطيع أفراد المجتمع المتضررون التمكُّن من العيش حياة كريمة في أُسر مستقرة، قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع.
والحال أن الحديث عن أهمية إعطاء المجتمع حرية للاختيار باعتباره حقا من حقوقه الشخصية المشروعة، يُلزمه تحمُّل مسؤولية هذه الحُرية، وقدرته على اختيار الأصلح والأفضل له ولمجتمعه؛ ذلك لأن اختيار الزوج أو الزوجة من أهم اختيارات الحياة، بما تمثله من أهمية في تغيير نمط حياة الفرد، وبالتالي نمط حياة المجتمع في تأسيس الأسرة وما تقوم عليه من مبادئ وقيم مجتمعية تُربي عليها النشء، فإذا كانت الدعوة إلى اختيار شريك الحياة مهمة في كل الأحوال، فإنها تكون في حق الزواج من الأجنبي ذات أهمية قصوى، لما يمثِّله ذلك من تحولات اجتماعية قد تؤثر تأثيرا مباشرا في تغير مفاهيم القيم في المجتمع.
إن التحولات الاجتماعية والتطورات الديموغرافية في المجتمع تكشف عن قدرته على الانفتاح المسؤول، والتنمية البشرية التي تجعل منه مواطنا إيجابيا، ولأن تأسيس الأسرة هو جوهر المجتمعات، الذي تتشكَّل ضمنه هُويتها، وتقوم عليه مبادئ المواطنة والعمل، فإن مسؤولية توعية المجتمع بما هو مقبل عليه تقع على عاتق المؤسسات الثقافية والاجتماعية، التي لابد أن تقوم بدورها في تهيئة المجتمع بأهمية حسن الاختيار، والتحديات التي تواجه سوء اختيار الشريك سواء من داخل الوطن أو خارجه، فهناك من ينظر إلى الأمر من الناحية المادية وحسب، لكن الحال يقتضي الكشف عن المشكلات التي تواجه المجتمع جرَّاء سوء الاختيار، وما تواجهه اليوم الكثير من الأسر لحالات الطلاق، والمشكلات الاجتماعية المتعددة للأبناء خير دليل على ذلك، ولهذا فإن المسؤولية هنا تتوجَّب على الجمعيات المعنية بل ومؤسسات التعليم، في تهيئة المجتمع وتوعيته.
فالحق أن هذه التحديات اليوم تتسع أكثر إذا ما أخذنا في عين الاعتبار الانفتاح التقني ودور وسائل التواصل الاجتماعي؛ ذلك لأن الكثير من المشكلات والتحديات تواجه الشباب بسبب الانفتاح الإلكتروني والتعامل مع الآخر الافتراضي، ولهذا فإن حق اختيار الشريك الأجنبي، يتوجَّب عليه قدرة المجتمع على تحمُّل مسؤولية الاختيار، فعلى الرغم من أنه حق أصيل للأفراد، إلاَّ أن هذا الحق كغيره من الحقوق تؤثر تبعاته على الأسرة وبالتالي على المجتمع كله، فقد شهدنا الكثير من قضايا الزواج من الأجانب في بلدان الوطن العربي التي أدَّت إلى تفاقم المشكلات الاجتماعية فيها وزيادة قضايا الابتزاز والاحتيال الإلكتروني وغيرها.
تشير الورقة المفاهيمية لـلمؤتمر المتوسطي الخامس عشر (MCIS) ومؤتمر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السادس المعني بنظم المعلومات (MENACIS) 2023 (جسر المجتمعات في عالم رقمي)، الذي سيُعقد ما بين (6-9) سبتمبر من العام الحالي، إلى التحولات الرقمية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والإدماج، في ضوء التحديات التي تواجه المجتمعات، والقضايا التي تسهم في دعم تلك التنمية، ولهذا فإن السياسات الاجتماعية تُسهم في توجيه تلك التحولات في دعم الأهداف الوطنية التي يسعى إليها المجتمع، إذ لابد من إيجاد خطط توعية وتأهيل من أجل الاستعداد للتحولات الاجتماعية الناتجة عن الانفتاح الرقمي، وهي تحولات تقودها التقنية ويدفعها المجتمع في ظل المتغيرات الاقتصادية والثقافية التي يشهدها العالم.
إن أهمية بناء أسرة مستقرة قادرة على تربية مواطنين إيجابيين تقع علينا جميعا، واختيار الشريك سواء أكان عمانيا أو أجنبيا عليه أن يكون ضمن وعي بالمسؤولية الاجتماعية؛ فعلى الرغم من أن البعض قد يولي العاطفة أو المصروفات المالية المترتبة على الزواج أهمية أكثر مما قد يترتب عليه اختيار الشريك من تحديات في مفاهيم التحولات الاجتماعية، إلاَّ أن الأول قد يكون وقتيا في حينه، وسيبقى الأثر الذي يواجه تلك التحديات الاجتماعية في تزايد خاصة إذا لم يتنبَّه الأفراد إلى أهمية الدور المجتمعي الذي يقومون به.
فالتحولات الرقمية وانفتاح المجتمع على العالم يستوجب إيجاد وسائل حديثة في التوعية والتأهيل، حتى تكون هناك ضمانات اجتماعية ونفسية تحمي أفراد المجتمع من الوقوع في مطبات الاحتيالات أو القرارات غير المسؤولة. إن الحرية الشخصية ليست مطلقة ولا مستقلة تماما، فهي مرتبطة بالأسر، والمجتمع من ناحية، وبمستقبل تطلعات المجتمع وآفاق التحولات الاجتماعية الآمنة من ناحية أخرى.
إن عُمان تنشد دوما ضمان الحرية الشخصية للأفراد وصونها، في إطار العديد من السياسات التي تتبناها على المستوى الداخلي، وعلى مستوى الاتفاقات الدولية التي تُعزِّز تلك الضمانات، ولهذا فإن تغيير أنماط تلك السياسات سيترتب عليه مسؤولية كبرى من المجتمع والمؤسسات الحكومية والخاصة والمدنية المعنية كلها، لتحقيق تلك الضمانات بما يعود بالنفع على المجتمع، ولن يتأتَى ذلك سوى بإيجاد رؤية واضحة وخطة تنفيذية للتوعية والتأهيل، قادرة على مساعدة أفراد المجتمع، وتمكينهم من مهارات اتخاذ القرارات وحسن الاختيار.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
