لأنها كانت جائحة.. كان لا بد من أبطال الغذاء

25 أبريل 2023
25 أبريل 2023

حين سُئلت الروائية والكاتبة الهندية «سوزانا أرونداتي روي» عن جائحة كوفيد-19، جاوبت بجملتها الشهيرة: «تاريخيًا، أجبرت الأوبئة البشر على الانفصال عن الماضي، وتخيل عالمهم من جديد، وواقعنا اليوم مع هذا الوباء لا يختلف، ما هو سوى بوابة بين عالم وآخر»، بهذه الكلمات الموجزة رسمت الكاتبة التي حصدت العديد من الجوائز العالمية صورةً لواقع ما بعد الجائحة، إذ فرضت هذه التجربة الاستثنائية في تاريخ البشرية تغييرات على جميع مجالات الحياة، من مختبرات العلوم والتقنيات المتقدمة، حتى أبسط تفاصيل العيش على وجه الأرض، ولأن الغذاء هو عصب الحياة، ولأن الجائحة أصابت الحياة بالشلل، كان لا بد من «أبطال الغذاء».

خلال الستة عشر شهرا من ذروة موجات جائحة كورونا، وتحديدا منذ مارس 2020 وحتى نهاية يونيو 2021، ظهرت مصطلحات جديدة في الخطابات الرسمية، ووسائل الإعلام، ودوائر علوم وسياسات الغذاء، مثل «عمال الغذاء الأساسيين» و«عمال الخطوط الأمامية في الغذاء» و«أبطال الغذاء»، وذلك اعترافا بالأهمية الحيوية للعاملين في مختلف مواقع السلسلة الغذائية، من المزارعين ومنتجي الغذاء، وعمال مصانع الأغذية، والباعة، وعاملي المطاعم، وعمال التوصيل المنزلي، وكذلك علماء الغذاء، والمفكرين، والباحثين، والمبتكرين، الذين كان لهم دور عظيم في وضع التدخلات المطلوبة لتيسير الوصول لأغذية كافية، ومأمونة خلال الوباء.

فإذا عدنا بالذاكرة للوراء نجد أن تأثير الجائحة شمل النظم الغذائية المحلية، والإقليمية، والدولية، وواجهت جميع دول العالم تحديات في تصميم، وتنفيذ سياسات المعالجة، للتخفيف من الاضطرابات المفاجئة في نظم الغذاء، ومواجهة العجز الغذائي لدى الفئات الأكثر احتياجا في المجتمع، مع الالتزام بالتخطيط السليم لتحقيق المرونة على المدى الطويل، إذ ساهمت الوتيرة المتسارعة لانتشار الوباء، مع ارتفاع درجة عدم اليقين في شدة تأثيرها، وموعد انحسارها، على عرقلة تنفيذ التتبع، والتقييم المنهجيين، وأصبحت عملية وضع السياسات المناسبة أمرًا شاقًا، وبذلك كان الملاذ الوحيد هو البحث عن ابتكارات قادرة على معالجة التحديات الآنية، أو ما أطلق عليها آنذاك «الابتكارات المؤقتة» المدفوعة بظروف الطلب، والموجهة لحل التحديات الأكثر إلحاحا، على أن يتم تقييمها بشكل متكامل عقب انحسار الجائحة، وقد خرج العالم بمجموعة واسعة من الابتكارات المؤقتة في الغذاء على مستوى الممارسات والسياسات.

وعلى الرغم من خطورة الجائحة، إلا أن أعداد الذين يموتون سنويا من الجوع، والأمراض المرتبطة بنقص التغذية أعلى من ضحايا الجائحة، كما إن الإجراءات الاحترازية التي تضمنت التباعد الاجتماعي، والإغلاقات، ومنع تناول الطعام داخل المنشآت الغذائية، قد فاقم من التأثيرات الاقتصادية السلبية للجائحة، وفي مقدمتها فقدان وظائف الكثير من العاملين في السلسة الغذائية، مثل عمال المصانع، ونادلي المطاعم، وغيرهم، هذا بالإضافة إلى شريحة المعوزين الذين كانوا يعتاشون على بيع ما يسمونها «أطعمة الشوارع»، وإذا كانت هذه الإجراءات الاحترازية ضرورة قصوى وعاجلة وقتها، فإن وجود مثل هذه التداعيات تعكس الفجوة المعرفية في القضايا الهامة المرتبطة بالغذاء على مستوى الإنسانية ككل، فقد عانت جميع دول العالم من هذه التحديات، وهنا مجموعة من التساؤلات التي تفرض نفسها؛ ترى ما هي محركات الابتكار في إدارة أنظمة الغذاء في حالات الطوارئ؟ كيف يمكن لواضعي السياسات والمشرعين وهيئات الرقابة على السلامة الغذائية توظيف الابتكار لدعم صناعة السياسات الغذائية المحلية في الحالات الاستثنائية؟ ولماذا نجحت بعض السياسات السابقة في تحفيز الابتكار في مجال سلامة الأغذية في الحالات الطبيعية، ولكنها لم تصمد في حالات الطوارئ؟ ولمن تكون القيادة في الاستثمار في الابتكار الغذائي المؤقت أو المستدام؟ دعونا نرجع إلى بداية الطلب على الابتكارات الغذائية، نجد بأن التطور المعرفي في المجتمعات الإنسانية أدى إلى تغير في أنماط الاستهلاك الغذائي، إذ ارتفع الوعي على مستوى العالم بأهمية التغذية المتوازنة، المقترنة بالجودة والمأمونية، مما أسفر عن تنامي الحاجة إلى تطوير، وتطبيق معايير، وأنظمة رقابة مبتكرة، ومستحدثة لضمان الوصول إلى مستوى أعلى من سلامة وجودة الأغذية، وتبني النهج المتكامل في التحكم بالسلامة الغذائية في جميع مراحل السلسلة الغذائية، أو ما يسمى «من المزرعة إلى المائدة»، وإن كانت الجوانب التقنية لهذا النهج معروفة، إلا أن الجوانب العلمية والمعرفية والاقتصادية المرتبطة بتخطيط الغذاء، وتطبيق الابتكارات الداعمة لضمان جودة وسلامة الغذاء في الحالات الاستثنائية لا تزال محل دراسة العلماء، والباحثين، والمشرعين، والمهتمين.

إن ابتكارات الغذاء تكتسب درجة من التعقيد بسبب ارتباطها بالعديد من المحاور والتخصصات الأخرى، لذلك يجب على متخذي القرار فهم هذا الترابط، إذ تُعرف منظمة التعاون الاقتصادي لأجل التنمية الابتكار بأنه يشمل كل الأنشطة العلمية والتكنولوجية والتنظيمية اللازمة لإنتاج وتسويق منتجات جديدة أو محسّنة، أو لدعم العمليات الإنتاجية، وذلك إما بهدف توفير خيارات أكثر للمستهلكين، أو تقليل تكلفة الإنتاج، أو في المجمل تحقيق أهداف أخرى اجتماعية واقتصادية وبيئية، وإذا أسقطنا هذا التعريف على ابتكارات الغذاء نجد بأنها لا تعكس علاقة خطية بين ابتكارات الغذاء، والأهداف المتوقعة منها، على سبيل المثال، لا تأتي ابتكارات التصنيع الغذائي دائماً بخيارات أوسع للمستهلكين، كما هو الحال مع موجة تصنيع «الأغذية الصحية» و«الأغذية الخارقة» أو «السوبر فوودز» فهي ليست في صالح المستهلكين من ذوي القوة الشرائية المحدودة.

وإذا كانت مواضيع سلامة وجودة الغذاء تكتسب أهمية في الحالات العادية، فإنها تتصدر قائمة الأولويات في حالات الطوارئ، فجاءت الحاجة إلى مستلزمات الفحص السريع لامتثال المنتجات لمعايير سلامة وجودة الغذاء في مقدمة الابتكارات التي فرضها واقع الجائحة، حيث واجهت المؤسسات المعنية بالرقابة الغذائية تحديات في تنفيذ عمليات التفتيش والتحليل الغذائي بالمنهجية المعتادة، مع فرض تدابير الإغلاق، وتقييد الأعمال التجارية والمؤسسية، فإذا افترضنا بأن البحوث العلمية والابتكارات التكنولوجية كانت قد تمكنت من إنتاج وحدات الكشف عن مؤشرات سلامة الغذاء، بشكل متاح وميسر للمستهلك، لأزاحت عن المؤسسات الرقابية جزءا من العبء، فالعالم يسعى في ابتكار وحدات فردية لمعالجة المياه في الحالات الإنسانية، ومن قبل نجحت الابتكارات الطبية في إنتاج وحدات منزلية سهلة الاستخدام لقياس السكر وضغط الدم في المنزل، وقللت من اكتظاظ المرضى في المؤسسات الصحية، فلماذا لا يكون التركيز الاستراتيجي في ابتكارات الغذاء منصبا على توفير وحدات مصغرة وسريعة للكشف عن ملوثات الغذاء، والتي يمكن استخدامها للفحص السريع في المؤسسات الرقابية، لتوفير الوقت، والتقليل من دورة التحليل المختبري، وتكون سهلة الاستخدام على مستوى المستهلك للاستفادة منها في الحالات الاستثنائية؟ وإذا تمكن الباحثون والعلماء والمشرعون والإداريون في مدينة نيويورك لوحدها من صناعة أكثر من 300 سياسة غذائية محلية خلال فترة الوباء، لماذا لا تبدأ دول العالم في وضع السياسات المحلية التي تتوافق مع واقع تحدياتها بدلاً من الاعتماد على المواصفات المرجعية الدولية ذات الطبيعة العامة.

إن انحسار الجائحة وعودة الحياة لطبيعتها يجب أن ينظر إليه بجدية وإدراك بأن الواقع الحالي مختلفٌ تماما عن واقع ما قبل الجائحة، ولا بد من الالتفات إلى محور إدارة النظم الغذائية في الحالات الاستثنائية والطارئة، وتحليل مدى كفاءة الابتكارات المؤقتة في رسم مسارات مستدامة لحل تحديات السلامة والجودة الغذائية، وإحداث تحول أعمق في النظم الغذائية، بالاستفادة من هذه الابتكارات المؤقتة التي حققت نتائج إيجابية خلال الجائحة، وتوظيف محركات الابتكار الغذائي، التي تتمحور حول الملاءمة، والقدرة على تحقيق العوائد الاقتصادية، والاجتماعية، ومتطلبات الواقع، وتهيؤ الفرص التكنولوجية للتطوير، والأمثلة كثيرة من السياق العالمي لتجارب الدول والأقاليم التي استفادت من الابتكارات المؤقتة في مواضيع الغذاء خلال جائحة كورونا، وأحرزت تقدماً واسعاً في تطوير النظم الغذائية، فالحاجة إلى أبطال الغذاء لا يقتصر على عمال الخطوط الأمامية وقت الجائحة وحسب، وإنما يكمن في تشجيع العلماء والباحثين والمبتكرين لدعم تخطيط الغذاء، وتعزيز النظم الغذائية المستدامة.