الكتب المحرمة
في أولى صور طفولتي، يصطف أعمامي وأمي وجدتي، أربعة منهم يحملون أجزاءً أربعة من كتاب «ألف ليلة وليلة»، طبعة بأغلفة ملونة، يتظاهرون بالقراءة أثناء التقاط الصورة، عمري لم يكن يتجاوز ٦ أشهر آنذاك. سيكون هذا المشهد علاقتي الأولى بالكتاب والتي سأؤسس عليها أحلام يقظة فيما بعد ستمتد إلى سنين طويلة. فتلك النسخة من ألف ليلة وليلة تمت تخبئتها بمجرد تعلمي القراءة، لأنهم قبضوا علي وأنا أتصفحها، قالت أمي بأنه لا يمكن أن أقرأ الكتاب الآن، لذا ظننتُ حينها أنه سيأتي وقت يمكن أن أقرأ فيه هذا الكتاب، فانتظرت.
كانت مساهمة أمي في حفلات زفاف بنات العائلة غريبة جدا، كانت تحتفظ بخمسة كتب تقريبا، تعيد تدويرها كلما حان موعد زفاف إحداهن، ولم يكن مسموحا لي بالاطلاع عليها. في مكتبة التلفزيون كانت أمي تمتلك النسخ المختصرة من البؤساء وأحدب نوتردام لفيكتور هيغو، قبل أن تستبدل بهذه الكتب أخرى عن الجن والأدعية. أكثر ما أتذكره من طفولتي أيضا، كتاب صغير بحجم الكف، أهداه والدي -الذي تعلم لاحقا حتى الصف الخامس- لأمي، وهو «قطرة في زمن العطش»، الصادر عام 1985 للشاعر العماني هلال العامري.
في طفولتي لم نكن نخرج كثيرا من البيت، إلا في زيارات أسبوعية لعائلة أمي، أتذكر الوقت الذي سأمت فيه من هذه العادة، فظللت في البيت وحدي رافضة الذهاب لبيت جدتي، أقضي الوقت بمشاهدة التلفزيون وقراءة إبراهيم الفقي على الفراش، في أحد الأيام رن هاتف البيت الثابت، وعندما رددت كانت صديقة أمي المقربة على الجانب الآخر من الاتصال، سألتني عنها وقلت لها إنها ليست في البيت، فتعجبت! ماذا عنك؟ ما الذي تفعلينه وحدك في البيت إذن؟ قلتُ لها وأنا مزهوة بنفسي، وبأنني فتاة عاقلة وناضجة وكبيرة إنني أقرأ فسألتني عن الكتاب. مضت أيام قبل أن تصادر أمي الكتب مني، بعد نصيحة من صديقتها بأن هذه الكتب ستفسدني، وبأنني منطوية ولا أتفاعل مع العالم جيدا بسببها. لم يكن جرحي في ذلك الوقت بسبب مصادرة الكتب لأكن صادقة، بل لأنني رأيتُ أمي تحب صديقتها وتعبر عن ذلك، بالقدر الذي أردتُ أنا امتلاكه لوحدي، كنتُ أشعر بغيرة حارقة، إلا أنه ولمرة أخرى تكون الكتب جزءا بنيويا في مشهد تفتح الروح عما تشعر به وتريده.
عندما عدتُ من الدراسة في الكويت تشجعت لسؤال أمي عن «ألف ليلة وليلة» قالت بأنها لا تتذكر شيئا عن هذه القصة وأنها أحرقت مجلات وكتبا يمكن أن تكون تلك النسخة بينها، ذعرتُ فورا لمصادرة انتظاري بهذه الطريقة، إلا أن الأمل عاد ليتجدد قبل نحو ثلاث سنوات، عندما قال لي جدي بأنه يحتفظ في «سحارته» بكتب ربما أنا من يجب أن يحصل عليها. تأملتُ بأنني سأحصل أخيرا على ألف ليلة وليلة خاصتي حتى وإن لم تكن الطبعة المنشودة، لأنني عرفتُ حينها الفرق بين الطبعات، والقص واللصق الذي عومل به النص في العديد منها. وفي اليوم المنتظر لم يخرج من سحارة جدي سوى كتب مدرسية قديمة جدا تعود للثمانينيات غالبها تخص الأدب. تظاهرتُ بالسعادة بها وما زلت أحتفظ بها في مكتبتي لأنها تذكرني برغبة جدي في إهدائها لي تحديدا من بين جميع أحفاده.
عام 2017 كنتُ أعمل بدوام كامل في متجر كتب، تلمع بوضوح وفي رأسي تلك الذكرى عن أب وابنته، في قسم الأطفال، يناديني طالبا مني المساعدة فيقول لي: أريد كتبا لابنتي التي تبلغ من العمر خمس سنوات، لكنني أريد كتبا من بيئتنا. سألته ما الذي يعنيه بذلك تحديدا. وكم أغاضني جوابه، قال لا داعي لذكر الغابة والأنهار، لأنه لا توجد في عمان غابات ولا أنهار فلماذا الكذب على الطفل وإيهامه بشيء لن يراه ولا يعرفه. كان جادا، وصارما، وأنا خجولة بطبعي، قلتُ له لكن الخيال جزء من تجربة الإنسان، لا بأس إن لم تكن موجودة هنا، لكنها ستكون موجودة في المخيلة. إلا أنه تبرم من ردي مما دفعني فورا لترشيح الكتب العمانية الموجودة على الرف.
سأشهد بنفسي عائلات عديدة تدخل أبناءها في المكتبة، وتفتش الكتب قبل شرائها، وتستبعد بعضها بسبب الغلاف فقط، لقد أردتُ أن أقول لهم بأن الأطفال والمراهقين لا يقرأون اليوم، وأن أبناءهم استثنائيون، وبأن قراءة هذه الكتب، يمكن أن تدفعهم لقراءة ما هو جاد أكثر مع مرور الوقت، لكنني لم أمتلك شجاعة قول ذلك، خصوصا وأنا أحضر مشاهد للتقريع وإحراج الأبناء أمامي، أنا الشخص الغريب الذي ينظر مباشرة لمشهد مختزل عن قصة عائلية تكاد تكون كاملة في مخيلتي.
لم أكن أقصد الكتابة عن الكتب المحرمة، عندما جئت لكتابة هذه المقالة، مدفوعة باليوم العالمي للكتاب الذي يوافق ٢٣ من أبريل كل عام، كنتُ أريد الحديث عن علاقتي بالكتب، لكن فلننظر لما يعنيه ذلك. إننا صنيعة حرماننا، بهذه البساطة يمكن أن نقرأ تجربتنا الإنسانية، بأننا رهائن تلك اللحظات الصغيرة التي صودر منا فيها شيء ما. ولا أعني بهذا أننا فاقدو الإرادة -مع ترجيح ذلك طبعا- لكنني أقصدُ أن وعينا قد لا يعني تجاوزنا مآسينا القديمة، وأن الحياة بتقدمها لا يعني ذلك أنها تسير في خط مستقيم للأمام، إنها فرصة شائكة ومعقدة ولا يمكن حلها.
