المواطنة والاستحقاق الوطني للوطن

19 أبريل 2023
19 أبريل 2023

لا تزال قضية المواطنة واستحقاقاتها الوطنية للوطن، مدار الكتابات والندوات والمؤلفات في كل دول العالم دون استثناء، وربما يأتي هذا الاهتمام المتزايد بسبب إشكالات تجري لهذه القضية المهمة في عصرنا الراهن -المواطنة- وما يتبعها من استحقاقات في بعض حياة المجتمعات الإنسانية، التي تحتاج إلى نقاشات ومتابعات وبعض ما يطرح لقضايا الوطن والمواطنة من مؤسسات قانونية وحقوقية، فالوطن كما هو معروف محل سكن الإنسان الذي يقيم فيه ومحله، أو كما عرّف البعض الوطن لغة بالأرض التي يعيش الفرد فيها ضمن شعب أو مجموعة، تحمل بعد ذلك مقومات الدولة من خلال سلطة قائمة، أو هي مجموعة نشأت على هذه الأرض جماعة بشرية وتؤسس بعد نظامها السياسي والقانوني، وتسمى وطنا، ومن هنا تستمد المواطنة من الوطن والانتماء إليه ويمارس عاداته ولغته وتقاليده، من هنا يأتي مفهوم المواطنة في اللغة العربية المتعلق بالوطن والموطن والوطنية، فالوطن هو المكان الذي يعيش فيه الإنسان، ويتفاعل معه حياتيا ووجدانيا، إنه الأرض المحددة في جغرافيتها السياسية بعدما صار للدولة مفهوم ومحددات قانونية وسياسية، وقد جاء في لسان العرب في تعريف الوطن، أن الوطن كما يرى الدكتور وجيه كوثراني: «هو المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله ووطن بالمكان وأوطن أقام، وأوطنه اتخذه وطنا، والموطن، تفعيل فيه، ويسمّى به المشهد من مشاهد الحرب وجمعه مواطن، وفي التنزيل العزيز: «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة»، وأوطئت الأرض ووطنتها توطينا واستوطنتها أي اتخذتها وطنا، وتوطين النفس على الشيء كالتمهيد».

أما الوطنية التي تتحرك من الوطن الذي يجمع الجميع في مظلة واحدة، دون تمييز أو إقصاء، وتتجلى في المواطنة التي تكون حقا من الحقوق للمواطنين، وهذا المسمى لوطنية عاطفة نفسية لهذا الوطن ورسوخه الوجداني، في أن يتحلى المواطن بالوطنية والذود عنه والوقوف مع قضاياه ومنطلقاته بالانتماء لهذه الأرض التي يعيش عليها والدفاع عنها، من المخاطر التي تهدده من الجماعات البشرية الأخرى، وهي بذلك ترتبط وتنتسب للجماعة البشرية الذي هو أحد أفرادها في هذا الموطن الذي يسمى الوطن، ولذلك لا يوجد أي انفصام أو تعارض يتناقض بصورة جذرية وواقعية، بين الوطن والمواطنة والوطنية، إذ أن كلمة المواطنة مستمدة من الوطن الذي يعيش عليها المواطن، والوطنية هي -كما أشرنا- عاطفية نفسية تنطلق من الانتماء الراسخ في الوجدان لهذا الوطن، كما أن المواطنة بحسب الباحث أحمد عبدالجواد إذ تتحدد على: «مرتكزين أساسيين لا انفصال بينهما وفق هذا المفهوم اصطلاحا أولاها، (جنس الإنسان)، وثانيهما، الأرض التي يعيش عليها الإنسان، الذي يعيش على أرض محددة تكون له وطنا، ويسمى هذا الإنسان مواطنا، ويشترك مع غيره، ويتفاعل معهم، ويدافعون معا عن هذا الوطن الذي يجمعهم».

وإذا عرجنا على تجربة صحيفة المدينة أو دستور المدينة -كما يسميها البعض- التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم لسكان المدينة - يثرب تعطي نموذجا فريدا ومتميزا لمعنى المواطنة ومفهومها العميق، لم نجده في مجتمعات أو شعوب أخرى سبقت العصر الأول الإسلامي أو في العصور اللاحقة عليه، فقد صاغ الرسول -عليه الصلاة والسلام- هذا الدستور وحدد فيه التعدد أو التنوع القائم في المدينة، وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: «لكن تجربة صحيفة المدينة أو دستور المدينة -كما يسميها البعض- التي أقامها الرسول -صلى الله عليه وسلم- لسكان المدينة - يثرب تعطي نموذجا فريدا ومتميزا لمعنى المواطنة ومفهومها العميق، لم نجده في مجتمعات أو شعوب أخرى سبقت العصر الأول الإسلامي أو في العصور اللاحقة عليه، فقد صاغ الرسول -عليه الصلاة والسلام- دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك».

إذ جاء في صحيفة المدينة: «وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء) فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو إثم، فإنه لا يوتغ -(أي يهلك)- إلا نفسه، وأهل بيته».

وينطلق الإسلام في نظرته إلى المواطنة من منطلق العدالة والمساواة التي تعد الأرضية الحاضنة والسمة البارزة لمفهوم كرامة الإنسان وإنسانيته باعتباره مخلوقا كرّمه الله سبحانه وتعالى وفضله على كثير من مخلوقاته، قال تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا». (الإسراء:70). وقوله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام». (النساء:1). والحكمة الإلهية جعلت الأمم تختلف فيما بينها، وهذا ليس بحالة طارئة على الإنسانية أن تختلف، وإنما كما أخبرنا القرآن الكريم بأنها سنة أزلية، أبدية قد فطر الله عليها جميع المخلوقات.. فلم ولن يكون الناس نمطا واحدا أو قالبا فردا، وإنما كانوا ولا يزالون مختلفين «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» (هود: 119،118).

ولذلك فإن المواطنة هي الانتماء إلى الوطن والمشاركة فيه مع مواطنين آخرين متفقين بإرادة ورغبة مشتركة مع آخرين ينتمون لهذا الوطن، والعيش معا في حياة مستقرة وآمنة وهانئة، ومن هنا فإن تم التأكيد والحرص على قيم المواطنة، أن من شأنها أن تؤسس بصورة متماسكة الإحساس بقيمة الوطن والمواطنة، والاتفاق على أطر يتم تحديدها من مبادئ وقيم تتوافق عليها قبل انخراطها واندماجها في الأمة الوطنية الواحدة. ويتحقق بذلك للمجتمع الأمن المنشود، ويحصل بهذا للمجتمع مواطنين على درجة كبيرة من الوعي بقيم المشاركة والتعاضد وتحمُّل المسؤولية وإبداء الرغبة في المشاركة الوطنية الراسخة، والقدرة على حمل الأعباء ومواجهة التحديات أمام الأزمات الاقتصادية والاجتماعية وعبرها، والعمل على إيجاد الحلول الإيجابية لها عند حدوثها، وهذا يتحقق من خلال ما يتربى عليه الفرد ويمارسه من خلال التعليم والتربية وغرس القيم والحفاظ عليها.

من هنا فإن المواطنة تعبير يجسد كل المعاني الرائعة في المجتمع والدولة من المشاعر المشتركة بين أفراد الأمة وخصائصها المتعددة من قيم وأفكار وغيرها من المقومات الجميلة في الأوطان. فالمواطنة -كما يقول الدكتور حسين جمعة- انتماء عقلي موضوعي وأصيل لقيم الحق والخير وتربية ذاتية واجتماعية وثقافية، وكلما ارتفع المواطن في درجة المسؤولية وجب عليه أن يكون قدوة وعن قناعة، وعليه أن يعيش حسّ المواطنة بحالة وجدانية عالية لكي يكون قادرا على تحمُّل المسؤولية، وبذل العطاء والتضحية بأريحية، لأن المواطن في الأصل متشبه بالقيم السامية متمثل لها، ومشحون بحب الوطن وقضاياه. قد يقول البعض إن مفهوم المواطنة يعد من المفاهيم المتحركة في إطار الصيرورة الزمنية التاريخية المتغيرة، يضيق أحيانا ويتسع أحيانا أخرى، لكنه في المجمل مفهوم اتفقت عليه الإنسانية جمعاء في عصرنا الراهن بمضامين واضحة مع اختلاف الثقافة السائدة في كل دولة، لكنها تتقارب في أهدافه ومحدداته العامة.