حول إحباط الدراما 2-2
يكتب محمود درويش
ألف شكر للمصادفة السعيدة
يبذل الرؤساء جهدا عند أمريكا
لتفرج عن مياه الشرب
كيف سنغسل موتانا؟
القبح أو الحسن أو التنافر أحد اهتمامات الاستطيقا أو علم الجمال. فإذا كنا تعلمنا أن نقد العمل الفني يرتكز على تناول كل تفاصيل العمل الدرامي فكرة ومعالجة درامية وحوارا وتمثيلا وإخراجا، فإن هذا الذي تعلمناه (لم يعد يشكل قيمة أو أساسا أو معيارا) لذا أخذ يتصدر اليوم النقد المتابع لإحباط الدراما، أن يُمتَدح أداء الممثل أو الممثلة، أو حوارا أو لقطة للكاميرا، أو أغنيات داخل العمل ككل، أو الديكور. ويأخذ المتابعون كذلك التركيز على الظهور المتكرر للنجوم في أكثر من عمل في رمضان، وعن الغرق في البكائيات لممثلة، أو أثار البوتكس لممثل، وغيرها من الملاحظات المهمة. وهكذا تجري اليوم الإشادة بوجود نسب تفاضل بين الأعمال الدرامية في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وعطفا على ما تقدم، فإن فتاة هاوية للتمثيل ولم يسبق لها الوقوف أمام الكاميرا أو التمثيل في عمل ما، أو الوقوف على خشبة المسرح، أو مغنية شعبية في فرقة للغناء الشعبي يقتصر عملها في حياتها على الغناء في المناسبات الوطنية والأفراح الاجتماعية أن تحصل على قبول لدى المشاهدين في أول ظهور لها، أكثر من فنانة مخضرمة، ولا بأس أيضا أن تُمنح هذه المغنية الشعبية جائزة متقدمة في التمثيل أسوة بتصدرها محركات البحث في وسائط التواصل الافتراضي. وثمة كلام يمكن أن يقال في واقع التمثيل والموهبة والتخصص والأداء ليس مكانها هنا في هذا المقال.
وقياسا على ما تقدم، يجوز لنا الذهاب بعيدًا وطرح سؤال حول القيمة والرسالة، سواء خصَّ ذلك الاشتغال الفني الدرامي على الشخصية الدرامية، أو على خصائص النوع الدرامي (تراجيديا، ملهاة، كوميديا)، وهناك من يسأل عن الهدف من انتشار هذه المنصات وما تقدمه أو تنتجه من أعمال يثير بعضها الجدل، وهي أسئلة مشروعة إذا كان نقاشها سيتم حول معايير التقدم في العلم والتكنولوجيا والرقميات والتنافس والسوق والعمل على تقديم الجيد. ويتصل بالثورة العلمية في مجال انتشار المنصات والرقميات تشجيع الاستفادة من برامج التنمية الذاتية غير المتطرفة في مجالات كثيرة كالروحانيات وأساليب التشافي ومراحله، والتنظيف الداخلي للصدمات وللماضي، كما استفاد الأدب من علم النفس. فلا ضير أن تستفيد المسلسلات من قضايا التنمية الذاتية وتطوير الوعي لتوظيفها في عمل درامي جيد، لأن النفس البشرية أغوارها السحيقة عادة ما تظل مُلغزة، وفي سعي بعض الأعمال إلى إضاءة جوانب النفس المعتمة جانبٌ محمود، دون الوقوع في فخاخ المبالغة أو التسليع أو الابتذال. ويقترن بهذه الجزئية لجوء بعض الأعمال إلى الزَج بالعديد من قضايا ملفات الساعة في عمل واحد؛ فأفكار النسوية مثلا والحرية الفكرية، كما يراها بعضهم صِدامية وغير واقعية في مجتمعاتنا وقادمة إلينا من عقليات غربية فيرون أنه يجب على الدراما لدينا تجنبها في المُطلق، فتتصدى المعالجة الدرامية لتتناول الموضوع في قالب فج وهزيل وحوارات ركيكة وعظية وبلهاء هدفها تعبئة ساعات البث بثرثرة وتفاهة مجانيتين، وتنفيذ بعض السياسيات العليا.
من المعلوم، أن كل معالجة درامية تتوخى تحقيق مكسب كبير، فتحرص بعض القنوات على تقديم سيناريو جدلي! حتى كلمة «الجدل» أضعها في غير محلها هنا، فالكاتب يوجه أفكاره ويخلق أجواء الإثارة والتشويق للعمل، لكن سرعان ما تنكشف بعض ثغرات المعالجة عندما تتصدر العمل وجهة نظر (المؤلف/ القناة) في تعاملهما السطحي أو الاستفزازي، فيلتبس عندئذ السياسي الرسمي، مع الفني الإبداعي، وعوض متابعة العمل ومناقشته فنيا يمكن أن تتحول الآراء والتعليقات إلى معركة! لماذا أوصلتنا دراما المسلسلات إلى هذا الهوان؟
إن أخطر ما في الأمر، يتمثل في أن التسابق بين القنوات والمنصات بات هو العمل المهم والشغل الشاغل، والتنافس يزداد وتيرة في شهر رمضان بصورة كبيرة، فليس مهما أن يجتذب الجمهور عملا فنيا بمواصفات الدراما المحترمة لعقل المشاهد وذهنه الثقافي وموروثه الدرامي، بقدر ما يهم هو السؤال عن القنوات القادرة على سرقة المتفرج أكثر من غيرها؟
إن رداءة بعض المعالجات الدرامية للقضايا الفكرية الخلافية (تاريخية أو فلسفية أو اجتماعية) بسذاجة واستسهال وتسرع تعيدنا إلى أسس الكتابة الدرامية المُهملة. يكتب الدكتور والكاتب الدرامي وليد سيف قائلا: «فالكتابة الدرامية التلفازية تحتاج إلى قدر كبير من التخصص والاحتراف، والسعي في هذا المجال يُمثل استثمارا ثقافيا ذا مردود عال في إطار التنمية الثقافية المطلوبة»، فلماذا الزج بعقليات المؤامرة حول ما تقدمه بعض منصات البث الافتراضية، ولا نريد الاعتراف بوجود إهمال وخلل وكسل في القراءة وفي النقد وتراجع مع سياسات إدارة الثقافة في بلداننا؟ لماذا التكرار في الاستشهاد أن المجتمعات العربية وصلت إلى الحضيض ومستوى من الإجرام غير المعهود وقدر عال من السوء والانحطاط، في حين تظل النماذج السوية مُهملة؟ يَطرح العديد من المتابعين أسئلة مشكوكة حول مجتمعاتهم التي يعيشون فيها وترعرعوا، ويأملون أن تعود كتابة المسلسلات إلى الاعتدال.
قد يلحظ المتابع تخفف بعض المسلسلات من قضايا المخدرات والاتجار بالأعضاء والسقوط في الرذيلة، في مقابل أن تلميع صور مجتمعاتنا بالنظافة المطلقة والنزاهة والشرف والتنمية المتطورة لا يجانب الواقع أبدا، وهذا يذكرني في مقالة سابقة بسؤال حول الهدف المبتغى: فإذا كان المتابع للمسلسلات يشجب ويدين التفاهة والاستهبال، لكنه لا يمنع نفسه عن متابعتها! وإذا كان العمل لا يُنتقد أو يُحلل ككل كبير، بل كتفصيلات وجزئيات صغيرة! وإذ ظلت إعلانات السلع مستمرة بقطع الاستغراق في المتابعة فتستفز المشاهد ولا يملك قرار مقاطعة السلعة التي حرقت أعصابه، فهل الهدف تسخيرنا للعيش في منظومة فكرية معينة ما؟ هل يُراد لنا الدوران في حلقة مفرغة ثقافيا وسياسيا واجتماعيا؟ إذا كان هذا الهدف آتٍ علينا من خارجنا، حسنا فماذا عن داخلنا الذي يُصفق لتصدير الصورة اللامعة؟ هل نمتلك كلنا ذائقة جمعية واحدة لتصر بعض السيناريوهات على بقائنا في العتمة؟ يحلو للكثيرين إزاء ذلك الموقف البكاء على الماضي والترحم، فيستعيدون بعض جواهر كتاب السيناريو الخالدين، أمثال أسامة أنور عكاشة، ومحمد جلال عبدالقوي، ووحيد حامد وغيرهم. ألا يدعو ذلك إلى مفارقة ما تكشف عن نظرتنا أو رؤيتنا وأسلوب تعاملنا مع الزمن المعاصر؟
عندما استطاع أسامة أنور عكاشة، أو وليد سيف على سبيل المثال تقديم معالجات درامية لا يمكن نسيانها، حول تحولات المجتمع العربي والتاريخ، أستطيع القول باطمئنان إنهما تمكنَا من تشكيل وجداننا الجمعي، لذلك يصعب نسيان شخصية (علي البدري) في ليالي الحلمية، أو شخصية (مسعود) في التغريبة الفلسطينية بما جسدتاه من أفكار وقيم ومواقف نختلف معها أو نتفق. اليوم نتساءل: لماذا لم تستطع دراما مسلسلات وسيناريوهات ورش الكتابة مثلا أو غيرها من تقديم نماذج يُلتفُ حولها، أو أن تُشكل تلك المسلسلات قيمنا الاجتماعية والثقافية في سياق ينتمي لنا وننتمي له ونتجاذب فيه حياة المجتمعات بمعزل عن التفاهة والتسليع والاستهلاك؟ والسؤال المقابل المُهم جدا: هل مهمتها ذلك فعلا؟ إجاباتنا ستختلف، لكن إثارة الأسئلة تنتمي إلى فكرة استشكال الزَمن علينا، كأننا لوحدنا في عالم تتجاذبه أقطاب نظرية الدراما وجدل التطبيق العملي لها، وليس ذلك حكرًا على المسلسلات وحدها، بل في السينما وعلى خشبة المسرح. والنقطة الأخيرة ستحتاج إلى مناقشة في مقالة أخرى.
