ليالي وباء رديئة!

11 أبريل 2023
11 أبريل 2023

مهمة القراء الأتراك ليست بالمهمة الصعبة عندما يتعلق الأمر بالحكم على الروائي التركي الأشهر أورهان باموق الذي حاز على جائزة نوبل للأدب عام 2006 فغالبا ما يجدون أعماله خادمة لأجندات «الغرب» ومن السهل بما كان ملاحظة المقدمات التي تفضي إلى هذه النتيجة في الكثير من أعماله وآخرها رواية ليالي الوباء التي صدرت عام 2022 وترجمت إلى العربية فورا عبر مترجمها جهاد الأماسي الذي يبدو أنه طريقنا للأدب التركي خلفا لعبدالقادر عبداللي الذي فارق عالمنا عام 2017.

لكن هل هذا هو الأهم في الأدب؟ أعني أنني لستُ بصدد مناقشة التزام الآداب والفنون في مقالي هذا، ولا الدخول في الجدل المشروع حول دور المثقف وإيمانه بالقضايا العادلة. يظهر عمل باموق الأخير «ليالي الوباء» باهتا للغاية، وأجزم بأنه لا علاقة له بصنعة الأدب ولا حتى بالتجريب فيه، صفحات عديدة تنتظر خلالها أي نوع من الترضية والعزاء كقارئ أدبي، لتجد نفسك متثاقلا وتظن بأنك أنت المتعب من القراءة، أما أن يكون باموق بهذه الرداءة فهذا أمر غير معقول.

تذهب قصة الرواية لجزيرة متخيلة تدعى «منغر» تصاب بوباء الطاعون في بدايات القرن العشرين إبان انهيار الإمبراطورية العثمانية، ويسعى باموق من خلال تعامل الدولة العثمانية مع الجائحة إلى بيان التصدع والمرض والانهيار الذي كانت عليه هذه الإمبراطورية. إنه يدعي من خلال مقدمة الرواية، أنها عبارة عن سرد تاريخي تقوم به باحثة في التاريخ عام 2017 تقع على كنز مهم وهو رسائل شخصية للأميرة باكزة ابنة أخ السلطان عبدالحميد سلطان الإمبراطورية العثمانية آنذاك، والتي زوجها عمها بعد عزل أبيها مراد الخامس من طبيب متخصص في الحجر الصحي، لتكون باكزة برفقة زوجها في جزيرة منغر المصابة بالجائحة.

من السهل توقع اشتغال باموق كما قلت في البداية على أي موضوع كهذا، له مسحة ديستوبية، وهو سياسي بالطبع، يمكن أن نتخيل أن من على الجزيرة، مسلمون ومسيحيون، آرثوذكس وبروتستانت (روميون)، وأن هنالك صراعا ملتهبا يقع بين أطراف هذه الجماعات التي يسعى على الأقل طرف منها وهم «الروميون» لإضعاف الدولة العلية، والانفصال عن الدولة العثمانية كما حدث مع جزيرة أخرى قبل فترة من بدء الجائحة في منغر.

حتى فكرة الرسائل هذه لم تعطنا أي بعد شخصي عن باكزة كشخصية في هذه الرواية، مثلما تظهر كل الشخصيات عموما، كأدوات يحركها الكاتب لتقول شيئا ما، بدلا من أن تعيش بالفعل. إنها مجرد شخصيات تؤدي دورا ما، وحتى بعد ثلاثمائة صفحة من أصل ما يقارب الثمانمائة صفحة نكاد لا نعرف عنها شيئا على الإطلاق. وفكرة الرسائل هذه ليست سوى مسوغ تقني لتبرير حصولنا على كل هذه التفاصيل عما يحدث في الجزيرة أثناء الجائحة. وما يحدث هناك في الكواليس التي يشارك فيها زوج باكزة، الذي لا تقع على عاتقه مهمة إنهاء الجائحة فحسب، بل التحقيق في مقتل أهم طبيب متخصص في الأوبئة في الدولة العثمانية، والذي يحاول زوج باكزة اكتشافه حسب طريقة «شيرلوك هولمز» ذلك أنه يعرف أن السلطان عبدالحميد يحبه جدا، وكان قد خصص مترجمين على استعداد لترجمة كل ما يصدر حديثا في هذه السلسلة أو في القصص البوليسية. يا لها من فكرة مضحكة بالنسبة لي كقارئة، وسط ما يحاول الكاتب تقديمه عبر روايته هذه.

فلنتأمل في المقابل مثالا آخر، وهو ميشيل ويلبيك الذي يؤكد لي صديق متخصص في الأدب المقارن أنه عنصري بالفعل، ويميني متطرف، فيما أصرُ بدوري أنه يكره الجميع على حد سواء حتى نفسه. وسر هذا الجدل حول ميلبيك عمله الأشهر «استسلام» الذي صدر عام 2015 ويحكي فيها قصة وصول حزب إسلامي للحكم في فرنسا. ورغم نظرة ميشيل ويلبيك المتطرفة ضد الإسلام، فإنك لا تستطيع ولا للحظة واحدة أن تقول إنه كاتب يكتب برداءة، وهذا ما يجعل القراء عموما في حيرة من أمرهم فهل يدعي ازدراء الناس كأداة من أدواته الفنية ليثير غضبنا واستفزازنا نحو مسألة ما؟ أم أنه ببساطة عنصري ومتطرف؟ لا شك أن ميلبيك ليس ساذجا عندما يتعلق بالرواية كما حدث مع باموق في «ليالي الوباء».

عادةً ما يتم الحديث عن باموق بعيدا عن مواقفه السياسية، بأنه برجوازي، وكثير من الأتراك الذين قابلتهم في حياتي يرون أنه يشبه «اليف شافاق» ليس سوى أكثر من ظاهرة تجارية. لكنني أختلف معهم في ذلك، استمتعت بالفعل بقراءة «إسطنبول الذكريات والمدينة» وهي سيرة نشأته في إسطنبول وعلاقته بها، بالإضافة لروايتيه ثلج، ومتحف البراءة، لكن ربما علينا مراجعة نظرتنا له، من خلال ما يقوله قراء شعبه عنه، وأعني هنا مراجعة الموضوعات والمواقف السياسية، أما الأسلوب الأدبي والفني فإنهما مفتوحان أمام القراء من كل مكان.

تكتب قارئة تركية أتابعها على موقع «جود ريدز»: «لا يوجد في هذا العمل سوى الجمع التاريخي. هل فات الكاتب أنه للحصول على اللون الأخضر يجب استخدام كل من الأصفر والأزرق وأنه لا يمكن الوصول للنتيجة المطلوبة بلون واحد؟ لغة الكاتب ليست فنية، مثل تسجيل الرسائل حدث هذا وحدث ذاك، ويعتمد على وصفات جاهزة من قبيل «جميل» و«رائع» و«حزين».

ثم لننظر لتوجيه الكاتب النظر إلى حل جريمة تحصل على الجزيرة وهي مقتل طبيب الأوبئة الذي ذكرته في بداية مقالي، كان الوالي باشا ممثل السلطان في الجزيرة، همجيا، لا يبحث عن الأدلة، لأن في ذلك إضاعة للوقت، بدلا من ذلك يسارع وبحدسه لاتهام أشخاص بعينهم، ويطلب إعدامهم في الساحة العامة لمنغر ليكونوا عبرة للجميع، يجب أن يعرف سكان الجزيرة قوة الدولة وممثليها وأن ترتعد فرائصهم عند التفكير في مخالفة أي أوامر قادمة من الوالي. لكن دفع زوج الأميرة باكزة لحل لغز هذه الجريمة على طريقة «شيرلوك هولمز» هي على النقيض من طريقة الوالي، لأنها عقلانية! ألا يؤشر هذا لإيمان الكاتب بالمركزية الأوروبية وافتتانه بها؟

تعود صديقتي التركية في مقال طويل لها عن الرواية لتقول إنه عمل أدبي جاف، بأوصاف بصرية لا تمتلك روحا، لقارئ محاصر لا يستطيع أن يحلم بمفرده، إن الكاتب يعتقد أن مجرد ذكره للأحداث سيكون فعالا، ويمكن احتمال هذا في كتب التاريخ أم في عمل يصدر على أنه رواية فذلك ما يصعب تحمله.

«يجب أن يكون المرء شاعرا وليس مؤرخا من أجل الشعور باليأس الذي بدأ يحيط بأجواء المدينة».