فيروس القرصنة البيولوجية ومتحوراتها
منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأت قواعد الملكية الفكرية العالمية تتبلور عبر الاتفاقيات الدولية، وخصوصا تلك التي تتعلق بالاستفادة التجارية من النواتج العلمية والمعرفية والفكرية، مثل معاهدة تريبس وغيرها، وأدت إلى ظهور حقبة جديدة من عمليات تتجير المعرفة العلمية منها والابتكارية والضمنية والتقليدية، وذلك بهدف تنظيم السيطرة الاحتكارية للشركات التكنولوجية الكبرى على الابتكارات المرتبطة بالتنوع البيولوجي والمعارف التقليدية، وفي معظم الأحيان يتم الوصول لهذه الموارد الطبيعية والمعارف دون موافقة أو تعويض للمجتمعات التي تمتلكها، جاء هذا الحراك تماشيا مع الأصوات الاجتماعية والعلمية التي كانت تنادي بالحقوق البيئية والثقافية للشعوب الأصلية، والمجتمعات المحلية، وأصحاب المعارف التقليدية، الذين هم حراس التنوع البيولوجي، وبذلك فإن أي ممارسة تخالف هذه الحقوق تعد رسميا «قرصنة بيولوجية»، لكن لماذا كل هذا التركيز على الموارد الوراثية والمعرفة التقليدية المرتبطة بالتنوع البيولوجي؟ ظهرت القرصنة البيولوجية لأول مرة كمصطلح في أوائل التسعينيات، لكن المتتبع لتاريخ البشرية سيجد أنه منذ أكثر من 2000 عام، كانت هذه القرصنة تحدث من خلال مجموعات الحملات الاستكشافية أو تعاقب الاستعمار الذي سهَّل عملية الوصول للأنواع النباتية والحيوانية، ونتجت عنها فوائد اقتصادية لم تكن في صالح المجتمعات التي تملك هذه الأصول من رأس المال الطبيعي، مما وضع الكثير من التساؤلات بشأن الدور العالمي لتحقيق العدالة الاجتماعية في تقاسم المنافع بين جميع الأطراف المعنية، مع حفظ واستدامة الموارد الوراثية والتنوع البيولوجي لكوكب الأرض.
دعونا نقترب أكثر من رأس المال الطبيعي كنموذج تنموي وذي أهمية استراتيجية، نجد أن المملكة المتحدة البريطانية قد كلفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بإعداد ورقة سياسات، وذلك كمدخل أساسي في نقاشات مجموعة الدول السبع الكبرى في عام 2021 حيث كانت بريطانيا دولة الرئاسة في الاجتماع آنذاك، وتضمن هذه الورقة توجيهات لواضعي السياسات المالية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والبيئية، من أجل دعم الجهود الدولية لوقف فقدان التنوع البيولوجي، وإيلاء رأس المال الطبيعي أهمية وطنية كأولوية قصوى وعاجلة، مع ضرورة تضمين التنوع البيولوجي في الاستراتيجيات والخطط والسياسات والمشاريع القطاعية والوطنية، وتحسين السياسات العلمية، وأطر الملكية الفكرية، والأدوات الاقتصادية الداعمة لحفظ التنوع البيولوجي، وتعزيز استدامته، لتلافي الوصول لحالة من عدم التوازن بين مطالب البشرية على الطبيعة في الوقت الراهن، وقدرة رأس المال الطبيعي على التجديد والتعافي، لازدهار الأجيال القادمة على الأرض، حيث إن البشرية في منعطف حاسم، وبحاجة ماسة لمعالجة الجوانب المتعددة والمترابطة للأزمات الناشئة من تدهور وفقدان التنوع البيولوجي، وتغير المناخ، والأمراض المعدية، والأوبئة المستجدة، وعواقبها الوخيمة على الصحة ورفاهية الإنسان والاقتصاد، وذلك امتثالا لبنود اتفاقية التنوع البيولوجي التي وضعت بنودا تنظيمية بما يخص أصول التنوع البيولوجي للنظم الإيكولوجية الطبيعية، والأنواع الأصلية، والموارد الأخرى ذات الصلة بالتنوع البيولوجي، وعلى رأسها الموارد الوراثية، التي تولد منافع اجتماعية وثقافية واقتصادية.
هنا سؤال يطرح نفسه وهو: ماذا فعل العالم للتصدي للقرصنة البيولوجية بمختلف أشكالها، مع اتساع أبواب العلوم والتكنولوجيا التي فتحت آفاقا رحبة لابتكارات وصناعات ذات قيمة تجارية مربحة، وفرصا مستقبلية واعدة في استخدام التنوع البيولوجي لدعم التقدم في الصناعات الدوائية، ومنتجات التكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيات الزراعية، والصناعات الغذائية ومنتجات العناية الشخصية؟ ولكن قبل الوقوف على الجهود الدولية التي وضعت لاحتواء القلق المتنامي بشأن القرصنة البيولوجية وتبعاتها، لا بد من وضع إطار مفاهيمي لاقتصاد التنوع البيولوجي، إذ إن وضع التعريف لقطاع اقتصاد التنوع البيولوجي ليس بالأمر الهين، ولا يوجد إجماع دولي حوله حتى الآن، يتمثل أحد أبرز التحديات في صعوبة التمييز بين «الاقتصاد الأخضر» و«اقتصاد التنوع البيولوجي»، يُعرّف برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) الاقتصاد الأخضر أنه الاقتصاد الذي يؤدي إلى تحسين رفاه الإنسان، ويحقق العدالة الاجتماعية، مع التقليل بشكلٍ كبيرٍ المخاطر والندرة البيئية، وبذلك فإن هذا التعريف يعكس مفهوما واسعا، غالبا ما يرتبط بـموضوعات الطاقة المتجددة، وتقليل النفايات، وخيارات العمل المستدامة، وهي ليست مرتبطة بشكل مباشر بالتنوع البيولوجي، أما مصطلح «الاقتصاد القائم على الطبيعة» فقد ظهر عقب إطلاق مبادرة إعادة بناء أوروبا التي تركز على الفرص الاقتصادية المتعلقة بالبيئات الطبيعية، وهذا المصطلح هو الأقرب لاقتصاد التنوع البيولوجي، فهو يهدف إلى تعزيز إدارة استخدام موارد التنوع البيولوجي للأغراض الاقتصادية، بما يضمن الحفظ المستدام لهذه الموارد، وهناك مصطلح آخر بدأ يستقطب اهتمام الباحثين والمفكرين، وهو اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي، الذي انبثق من مشروع عالمي يقوده برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يربط العديد من القطاعات الاقتصادية بالنظم البيئية ورأس المال الطبيعي.
وبالنظر في الإطار المفاهيمي الواسع لاقتصاد التنوع البيولوجي، فإنه من الأهمية بمكان وضع الجهود الوطنية والإقليمية أولا، ثم الاستفادة من الأطر العالمية الرامية للتقليل من القرصنة البيولوجية، على سبيل المثال قامت جنوب إفريقيا بمبادرة رائدة على مستوى العالم في هذا الشأن، حيث قامت بإعداد الاستراتيجية الوطنية لاقتصاد التنوع البيولوجي، اعتمدت فيه تعريف الصندوق العالمي للطبيعة، وحددت مجالين للتركيز الاستراتيجي، وهما محور التنقيب البيولوجي، ومحور حفظ الحياة البرية، والتنوع الفطري، بحيث ينصب التركيز الوطني على النظم البيئية الطبيعية الأصلية في جنوب إفريقيا، والمعرفة التقليدية للسكان الأصليين أو «حراس التنوع البيولوجي»، وهي تجربة تستحق القراءة والتعلم واستنباط الدروس.
أما على المستوى العالمي فقد ظهر «تقاسم المنافع» كتعبير قانوني من قبل اتفاقية التنوع البيولوجي في عام 1992، كنهج مركزي لتنظيم الاستفادة التجارية والاقتصادية من التنوع البيولوجي، وعزز بروتوكول ناغويا لعام 2010 أطر تنظيم التنقيب البيولوجي، والتجارة في الموارد الوراثية، والمعارف التقليدية المتعلقة بها، بحيث يتوجب على الأطراف الراغبة في الوصول إلى الموارد الوراثية من شركات التكنولوجية أو باحثين أو مبتكرين، تقديم ما أسماه البروتوكول «منافع عادلة ومنصفة» للطرف الذي يوفر هذه الموارد، واعتماد النهج القانوني في التعاقد على هيئة عقود ثنائية، أو اتفاقيات تقاسم المنافع، مع مورِّدي الموارد الوراثية أو المعارف التقليدية، التي يمكن أن يكون دولة أو فردا أو مجتمعا أصليا أو محليا أو مؤسسة وسيطة.
ففي حين تسعى العديد من الدوائر الاقتصادية والتنموية، إلى تسريع الاقتصاد القائم على التنوع البيولوجي لتحقيق أولويات التنمية، من توفير فرص العمل اللائق، وتحفيز النمو الاقتصادي والاجتماعي، إلا إنه وبالعودة لواقع تفشي القرصنة البيولوجية، فإنه من الممكن أن يكون تباطؤ هذه العملية هو الأنسب للمرحلة الحالية، من أجل إتاحة متسع من الوقت للدول والمجتمعات الآخذة في النمو لتمكين منظوماتها الوطنية لإدارة التنوع البيولوجي، ووضع آليات الحوكمة المناسبة، وتحديد أولويات التنمية المحلية بشكل متوازن مع متطلبات حفظ واستدامة رأس المال الطبيعي، والأهم من ذلك عبور التحديات المرتبطة بترسيخ أطر الملكية الفكرية، وجمع واسترداد المعارف التقليدية الثمينة.
