ميتوكوندريا.. مقاربة لفهم العلاقة بين الصيام والإنتاجية
في الأيام الأولى من شهر رمضان ومع بدء الصيام يعاني الكثير من الطلبة والموظفين من حالة قلة التركيز وانسحاب الكافيين، بسبب تغيير روتين الصباح الذي يتضمن تناول المنبهات مثل القهوة أو الشاي، وكما هو سائد في أنظمة العمل الحكومية منها والخاصة فإن ساعات العمل في الصيام أقل من بقية أيام السنة، كما أن هناك نسبة من الموظفين يخرجون خلال هذه الفترة في إجازاتهم السنوية، ولكن هل فعلا يتأثر التركيز وتقل الطاقة في الصيام؟ وماذا يقول العلم بشأن جوهر العلاقة بين الصيام والإنتاجية؟ عرفت البشرية الصيام كممارسة بدنية وروحية منذ عهدٍ بعيد، فبالإضافة إلى الصوم المعروف لدينا هناك أنواع لا حصر لها مثل الصوم المتقطع لساعات معينة، أو الامتناع عن أطعمة معينة في أوقات معينة من العام، أو تناول وجبات معينة في أوقات معين من اليوم، وبذلك حظيت موضوعات الصيام بأهمية كبيرة في دوائر علوم الصحة والتغذية لمدة طويلة من الزمن، وقد عادت مؤخرا لتشغل مساحة من الاهتمام البحثي والتحليلي ولكن من منظور مختلف تماما، وهو دراسة فوائد الصيام كأداة لتعزيز الإنتاجية المهنية، حيث إن من أكثر الموضوعات تحديا في محيط العمل هو الوصول لحالة التركيز ورفع مستوى الطاقة الذهنية، وتوسيع نطاق الإنتاجية في إنجاز المهمات الوظيفية، وقبل أن نتطرق لقوة الصيام لتعزيز النشاط المعرفي والفكري، دعونا نستعرض أهم خمس فوائد للصيام كما أثبتتها نتائج البحوث الطويلة للعلماء والباحثين من مختلف الكليات العلمية والمراكز البحثية لجامعة جون هوبكينز الأمريكية.
أثبت هذه الدراسات أن الصيام بمختلف أنواعه التي يمارسها البشر سواء كان مصدره دينيّا أو صحيّا كالصيام المتقطع، فإنه يزيد من معدلات تكوين الخلايا العصبية في الدماغ، مما يدعم الذاكرة والتركيز وتحسين الحالة المزاجية، كما أنه يعزز إنتاج عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ أو ما يسمى هرمون المعجزة المعزز للمرونة العصبية، الذي يساعد في مواجهة الإجهاد، ورفع قدرة الدماغ على التكيف مع التغييرات والضغوطات، كما أن الصيام يحفز إفراز هرمون النمو الذي يمثل أقوى مضاد للشيخوخة ومضاعفاتها، عن طريق تحسين الإدراك، وتوفير الحماية العصبية للخلايا المسؤولة عن الذاكرة والتعلم، والصيام يساعد على حرق الدهون بدلًا من السكر لإنتاج الطاقة، ويرافق ذلك تكوُّن عددٍ أقل من الجذور الحرة الطليقة، التي تسبب الإجهاد التأكسدي للجسم، ويُعتقد بأنها السبب العضوي وراء العديد من الأمراض المزمنة التي ظهرت مؤخرًا، وثبت بالأدلة العلمية أن الصيام يعزز التكوُّن الحيوي للميتوكوندريا، الذي يعد بيت الطاقة للخلية الحيوية لجميع أعضاء الجسم والدماغ على وجه الخصوص.
ومع جميع هذه الفوائد التي ترتبط بمستوى الإدراك الفكري والتركيز فإن قوة الصيام قد ألهمت الكثير من قادة الأعمال على مستوى العالم لتضمينها مع ركائز الصحة الداعمة للإنتاجية العملية والمهنية، وذلك بجانب التغذية المتوازنة، والنشاط البدني، والنوم الكافي، فنجد مثلًا المهندس جيفري وو الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة إتش. في. إم. إن. وهي شركة تركز على منتجات حمية الكيتوزية والصحة، يؤسس مدرسة فكرية تقوم على إدماج الصيام المتقطع كممارسة مهنية لرفع إنتاجية العمل في الشركة، وقد انتهج لنفسه وفريقه نمطا يلتزم بالمحافظة على فترات الصيام التي تصل لمدة 36 ساعة في الأسبوع، من أجل الحفاظ على مستوى استثنائي في الإنتاجية والابتكار، وهي سابقة مهنية متفردة في إدماج ممارسة لها أبعادها الروحية والنفسية والبدنية في عالم الأعمال.
ويعد المهندس جيفري وو من الشخصيات المؤثرة والبارزة في قيادة الأعمال، حيث إنه وظّف قدراته العلمية من تخصصه في هندسة الحاسوب من جامعة ستاندفورد، ليطبق عقلية هندسة الأنظمة على كشف العلاقة بين الصيام والأداء العملي والإنتاج الوظيفي، وكان قد تصدر قائمة فوربز لأقوى رواد الأعمال تحت سن الثلاثين Forbes 30، حيث تمكن من تأسيس شركات طلابية ناشئة خلال فترة دراسته الجامعية، وقد باع أولى شركاته آنذاك لوادي السيلكون Silicon Valley وهو في سن 23 عاما، وقد حاز المهندس جيفري وو على براءاتي اختراع من مكتب الولايات المتحدة لبراءات الاختراع والعلامات التجارية، وكذلك عمل بشكل وثيق مع الباحثين والمفكرين في جامعة أكسفورد، والرياضيين المحترفين، والفلاسفة والمُنَظرين، ونشر العديد من الأوراق العلمية في الدوريات المحكمة والمرموقة، وجميع جهوده البحثية والابتكارية تنصب حول وضع المقاربة لفهم العلاقة بين الصيام والإنتاجية.
وقد استطاعت إسهامات المهندس جيفري وو العلمية من استقطاب انتباه الباحثين والمبتكرين من مختلف دول العالم، وأصبحت موضوعات الصيام جزءا لا يتجزأ من جوانب ابتكار العمليات المؤسسية، كذلك صارت محور مناقشات ما يُطلق عليه «التوازن بين العمل والحياة»، وقد اعتُمد نهج الصيام المتقطع في العديد من الشركات والوحدات في وادي السيليكون، حيث أظهرت المؤشرات التجريبية ارتفاع مستويات الإنتاج مع فرق العمل التي تتبع السلوكيات الغذائية القائمة على الانقطاع عن الطعام خلال فترات العمل، والاعتماد على وجبة رئيسية واحدة في اليوم، خصوصا أن مؤرخي الغذاء قد أثبتوا بالبرهان العلمي القاطع بأن تناول ثلاث وجبات في اليوم يُعد ظاهرة حديثة، تعود لأواخر القرن التاسع عشر مع توسع الحملات الاستكشافية، وتتابع الثورات الصناعية، التي رسمت مسارات جديدة لتفاصيل العمل والحياة، ولكن لم يكن نمط الغداء لمعظم تاريخ البشرية سوى الاكتفاء بوجبة واحدة في اليوم، وقد عاش الإنسان الأول عمرًا أطول، وكانت سبل الحياة حينها شاقة، وتتطلب الكثير من العمل المضني، وهذا يضع الكثير من التساؤلات حول منبع الحالات الصحية المزمنة غير المعدية التي تعاني منها البشرية في حاضرنا، ومدى علاقتها بتغير أنماط الحياة والتغذية.
وهذا يقودنا للنقطة المحورية وهي كيف يمكننا أن نستفيد من توظيف هذه الحقائق عن فوائد الصيام في تعزيز صحة الدماغ وتحسين الوظائف الإدراكية، مما يؤثر إيجابيًّا في رفع الإنتاجية العملية والمهنية، فالصحة هي أساس كل إنتاجية، ونحن في هذه الأيام على أعتاب شهر رمضان الفضيل، وهي فرصة كبيرة لاقتناص منافع رفع الإنتاجية من ساعات العمل خلال الصيام، وذلك بتعزيز المهارات والاستراتيجيات الموجهة نحو زيادة كفاءة إنجاز العمل مع واقع تقليل ساعات العمل، فيأتي في المقام الأول وجود القناعة بأنه لا مزيد من مشتتات العمل، التي تحدث بسبب انشغال الموظفين بتناول الوجبات، وما يترتب عليه من حدوث بعض الركود، ويتباطأ العمل بسبب انخفاض الطاقة البدنية والذهنية أثناء الهضم، فإذا أعددنا خلال شهر رمضان مدونة لرصد الوقت الذي نستغرقه في إنجاز عملٍ ما، ومستوى التركيز الذي يتطلبه هذا العمل لكي يصل للجودة المطلوبة، يمكن حينها تغيير الكثير من ممارسات العمل غير المجدية لبقية شهور العام، ويمكن كذلك إعادة جدولة أوقات الاستراحة وتناول الطعام أو القهوة، والتركيز بشكل فعلي على إدارة الطاقة، والتركيز وليس إدارة الوقت والمهمات، فالفرق بينها كبير، حينما يكون الوقت مقابل الطاقة، الفيصل هو كيف تعطي الأولوية للمورد الصحيح؟ فمع تقليل ساعات العمل خلال شهر رمضان المبارك، تصبح إدارة الوقت ضرورة قصوى، ولكن الإفراط في إدارة المهمات من منظور الوقت لوحده قد لا ينتج عنه الارتفاع المنشود في مستوى الإنتاجية، فإدارة الوقت ليست بأهمية إدارة استثمار طاقات العمل لدى الموظفين، وتوجهيها بشكل استراتيجي للأولويات العاجلة، ففي حين أن الوقت مورد محدود سواءً في شهر رمضان أو غيره، إلا أن الطاقة تعمل بشكل مختلف لكونها موردا متجددا، لذلك فإن جدولة الوقت يجب أن تأخذ في الحسبان تجديد الطاقة، واستهداف الفترات الزمنية التي يكون فيها التركيز مرتفعًا؛ لأن أي تذبذب أو تراجع في الطاقة سوف يؤدي بشكل حتمي إلى تراجع في الإنتاجية، حتى وإن توافر الوقت الكافي لإنجاز المهمات المطلوبة.
