الشباب ومواجهة شبكات التواصل الاجتماعي
عندما تدخل مكانا عاما.. مقهى أو مطعما أو حتى قاعة دراسية أو غرفة انتظار في مستشفى أو عيادة طبية تجد مشهدا مكررا نادرا ما يتغير، كل من في المكان يمسك بهاتفه النقال، مركزا فيه بكل حواسه، ويتنقل به بين شبكات التواصل الاجتماعي. وباستثناء إلقاء السلام أو التحية المعتادة لا أحد تقريبا يتكلم مع أحد، هذا المشهد العصري تجده يتكرر في منازلنا، الآباء مستغرقون بعد عودتهم من العمل في استعراض حساباتهم على هذه الشبكات، والأبناء مشغولون حتى أثناء مراجعة دروسهم، بالشاشات التي ينظرون فيها منعزلين تماما عن أفراد الأسرة الآخرين وعن العالم من حولهم. قد لا نتوقف كثيرا أمام هذا المشهد من كثرة ما يتكرر أمامنا عشرات المرات في اليوم الواحد، ولكن الخطورة تتمثل فيما يمكن أن ينتهي إليه الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية للبشر وخاصة للأطفال والمراهقين، إذ بالإضافة إلى الانسحاب الاجتماعي المرتبط بانخفاض التواصل مع أفراد الأسرة، وانخفاض التواصل الاجتماعي خارج الأسرة، فإن هذا الاستخدام يكون سببا رئيسا في زيادة الشعور بالاكتئاب والوحدة والرغبة في الانتحار؛ لأن الوقت الطويل الذي ينفقه الفرد على هذه الشبكات يتم اقتطاعه من الوقت المخصص للاتصال الشخصي الطبيعي مع البشر، والاكتفاء بالعلاقات الاجتماعية الضعيفة التي يتم إنشاؤها على هذه الشبكات عوضا عن العلاقات الاجتماعية القوية في المجتمع.
الجديد في الأمر أن المدارس في الولايات المتحدة الأمريكية انتبهت لهذا الأمر أخيرا، واتجهت إلى مقاضاة شركات التواصل الاجتماعي بسبب ما تحدثه شبكاتها من تدهور في الصحة العقلية والنفسية للشباب. الدعاوى القضائية على شركات التقنية العملاقة التي انطلقت من إدارة المدارس العامة بمدينة سياتل عاصمة ولاية واشنطن في يناير الماضي، اجتاحت الولايات المتحدة خلال الأسابيع الماضية لتشمل مناطق تعليمية جديدة في ولايات كاليفورنيا وبنسلفانيا ونيوجرسي وفلوريدا، ومن المتوقع أن تشمل كل الولايات الأمريكية في فترة وجيزة، وتستهدف تلك الدعاوى إخضاع شركات التواصل الاجتماعي للمساءلة القانونية، باعتبار أن سلوكها يمثل مصدر إزعاج عام، ويهدد مستقبل الجيل الجديد، ومن ثم إجبارها على تغيير سياساتها في استهداف الأطفال والمراهقين، بالإضافة إلى دفع تعويضات لتمويل برامج الوقاية والعلاج من الأمراض العقلية المرتبطة باستخدام التلاميذ المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي.
هذا التحرك، المتأخر في رأيي من النظام التعليمي في الولايات المتحدة، يؤكد ما سبق أن حذرنا منه هنا أكثر من مرة، ويتصل بالتأثيرات العقلية الخطيرة لإدمان الإنترنت، وتحديدا إدمان استخدام شبكات التواصل الاجتماعي مثل «انستجرام»، و«سناب شات»، و«تيك توك»، و«يوتيوب» على الأطفال والمراهقين. لم يعد أمامنا إذن بعد أن تحرَّك المجتمع الذي اخترع الإنترنت، ووضع أسس شبكات التواصل الاجتماعي، ويحتضن شركات التقنية العملاقة التي تدير تلك الشبكات، سوى أن نعيد دق ناقوس الخطر، وأن ندعو مؤسساتنا التشريعية والتنفيذية والبحثية ذات العلاقة بسرعة التحرك، ومراجعة سياساتنا الوطنية في التعامل مع تلك الشبكات وتأثيراتها العقلية على أبنائنا حفاظا على ثروتنا البشرية.
بعد جدل علمي استغرق سنوات تأكد الجميع، كما جاء في الدعاوى القضائية، أن «شركات منصات التواصل الاجتماعي تستخدم الذكاء الاصطناعي المتقدم وتكنولوجيا التعلم الآلي لإنشاء منصات يتم إدمان استخدامها، وتضر بالصحة العقلية للشباب، وهو ما تنتج عنه تأثيرات عقلية سلبية، وأن تلك التأثيرات «كارثية»، إذ إن عدد الأطفال والمراهقين الذين يعانون عقليا أكثر من أي وقت مضى ويتزايد بشكل كبير، وهو ما يدخِل مستقبل البلاد في أزمة ليس لها نظير تاريخي». وتشمل تلك التأثيرات التي تستند إلى بيانات حديثة مستمدة من مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية، ارتفاع معدلات أعراض الاكتئاب والأفكار الانتحارية والتنمر بين طلبة المدارس الثانوية، وتدهور الصحة العقلية للشباب، وقد لاحظ المسؤولون في المدارس ارتفاعا حادا في حالات طوارئ الصحة العقلية خلال اليوم الدراسي، بالإضافة إلى التصرفات العدوانية للبعض مثل التخريب المتعمد للمرافق المدرسية، وسرقة بعض الأدوات والأجهزة المدرسية، بغرض تصوير ذلك وعرضه على منصات التواصل الاجتماعي. وتشير بعض المدارس إلى أن شركات منصات التواصل الاجتماعي «تستغل نفس الدوائر العصبية مثل ألعاب القمار والعقاقير؛ لإبقاء المراهقين أطول فترة ممكنة على شبكاتها، وتُظهر إحدى الدراسات أن المستخدمين يفحصون منصة «سناب شات» على سبيل المثال أكثر من ثلاثين مرة في اليوم الواحد، وأن ما يقارب من عشرين بالمائة من المراهقين يستخدمون منصة «يوتيوب» بشكل مستمر»، ويرافق ذلك زيادة كبيرة في نسبة الشباب الذين يقولون إنهم لا يستطيعون التخلص من القلق المستمر الذي يشعرون به أو التحكم فيه، بالإضافة إلى زيادة نسبة الذين يشعرون بالحزن واليأس لدرجة التوقف عن القيام بالأنشطة التي اعتادوا على ممارستها، والذين يفكرون في الانتحار، أو وضعوا خططًا فعلية للانتحار، أو حاولوا الانتحار بالفعل.
من حق شركات وسائل التواصل الاجتماعي أن تدافع عن نفسها، لكنه دفاع يبدو في غالب الأحوال ضعيفا، وتستند تلك الشركات في دفاعها إلى بعض الإجراءات التي أثبتت عدم جدواها في دفع الأطفال والمراهقين بعيدا عن التأثيرات المفجعة لشبكات التواصل الاجتماعي، مثل تقييد الاشتراك في الشبكات بعمر محدد، وهو ما يمكن تجاوزه بسهولة، ووضع قيود على المراسلة والبث المباشر، وتقييد التنبيهات الليلية، بالإضافة إلى الضوابط الأبوية، التي تسمح للآباء بالتحكم في المحتوى والخصوصية ووقت استخدام الشاشة، واستخدام وسائل المساعدة للوقاية من الانتحار واضطرابات الأكل، وحظر أنواع معينة من المحتوى على الأجهزة الخاضعة للإشراف الأبوي.
وقد شبَّه أحد المدّعين في القضايا الخاصة بشركات التواصل الاجتماعي هذه الإجراءات، التي تقول الشركات إنها تتبعها للحد من التأثيرات السلبية على الصحة العقلية للأطفال والمراهقين، بالطريقة التي اعتادت بها شركات التبغ التلاعب بمستويات النيكوتين المسجلة على علب السجائر للتأكد من استمرار الناس في التدخين».
لقد أثار انتشار الإنترنت منذ دخوله حيز الاستخدام الجماهيري الواسع وتزايد استخدامه ووصول عدد مستخدميه إلى المليارات من البشر، واهتمام العالم كله بالجوانب السلبية، أو بالأصح الجوانب المظلمة من هذه الوسيلة الجديدة، خاصة ما يتصل بالإفراط في استخدامها وعدم القدرة على التحكم فيه، وهو ما يشار له علميا باسم «إدمان الإنترنت»، ومع انتشار وتزايد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي خاصة في العشرية الثانية من القرن الحالي تزايد الرعب الأخلاقي العالمي من هذه الشبكات، ووصل الأمر إلى قيام بعض الدول بحجب بعض هذه الشبكات ليس فقط خوفا من إدمان استخدامها، ولكن أيضا بسبب ما قد ينتج عن هذا الإدمان من أمراض عقلية قد تدفع الشباب إلى العزلة والانطواء وتصيبهم بالاكتئاب ومن ثم الرغبة في الانتحار.
وإذا كانت مدارس الولايات المتحدة الأمريكية قد تحركت قضائيا لمواجهة شركات التواصل الاجتماعي، فما الذي نستطيع أن نفعله نحن لحماية أطفالنا وشبابنا من التأثيرات السلبية لهذه الشبكات والحفاظ على الصحة العقلية والنفسية لهم؟ إن علينا أولا أن ندرك أننا أمام مشكلة بالفعل، وأن ما يحدث للأطفال والشباب في العالم نتيجة الاستخدام المفرط لشبكات التواصل الاجتماعي يحدث أيضا لأطفالنا وشبابنا، الاعتراف بوجود المشكلة يمثل أول الطريق لمعالجتها، ومن ثم ننتقل إلى الخطوة التالية، وهي تقدير حجم وخطورة تلك المشكلة من خلال البحوث العلمية التي تقيس بشكل منهجي تلك التأثيرات على عينة ممثلة من الأطفال والمراهقين، وبعد ذلك يمكن لنا أن نسلك الطرق الوقائية والعلاجية، بالإضافة إلى الطرق القانونية والتشريعية التي تضمن الحد من هذه التأثيرات.
