تكريم استثنائي

07 مارس 2023
07 مارس 2023

«إننا قد نعترف بصعوبة تغيير حركة الواقع والتاريخ، لكننا لا نستطيع الاعتراف بعدم قدرة الإبداع والممارسة المسرحية خاصة على خلق أبنية مغايرة للوعي السائد في الواقع. ومن ثم فإنّ المسرحيين يتحملون مسؤولية تاريخية كبيرة عندما تطرح صورة المستقبل لتجربة المسرح في مجتمعاتهم».

يحتل سعادة الأستاذ الدكتور الكاتب والناقد الأكاديمي أستاذ النقد الحديث عبدالله إبراهيم غلوم (1952م) في مجال النقد المسرحي لمجتمعات الخليج والوطن العربي، مكانة كبيرة، وموقعا ثقافيا مؤثرا، وقد تبوأ هذه المكانة من خلال شغله العديد من الوظائف والمواقع الأكاديمية القيادية حفلت بها سيرته الذاتية.

ارتكز عمله كناقد عضوي وباحث في قضايا الثقافة والتنوير في المجتمع على جوانب كثيرة. ففي مجال المسرح صدرت له مؤلفات خصّ فيها البحرين ومجتمعات الخليج بعناوين دالة وصلت إلى (6) مؤلفات، أذكر منها مثلا: «المسرح الموازي، في سوسيولوجيا البدايات المسرحية والوعي القومي في الخليج العربي-2011م»، ومؤلفات أخرى (9) مؤلفات اشترك في تأليفها مع باحثين آخرين منها مثلا: «تقنيات تكوين الممثل المسرحي-2002م»، وله كذلك عدد من النصوص المسرحية المطبوعة (5) مسرحيات، واثنتان تحت الطبع، في حين تم إخراج (3) نصوص كـعذابات أحمد بن ماجد التي أخرجها حمد الرميحي - 1989م، ورأيت الذي سوف يُرى أخرجها خليفة العريفي، بينما تصدى كل من العريفي وعوني كرومي وعبدالرحمن المناعي وناصر الكرمي لإخراج مسرحية الخيول.

لم يقف النتاج الفكريّ عند هذه الزاوية، فلإبراهيم غلوم عدة مشروعات بحثية أشرف عليها؛ كالإشراف مثلا على «موسوعة المعتقدات والحكاية الشعبية في البحرين» وقد أنجز الجانب الميداني من المشروع حتى الآن، كما أسهم في كتابة مقدمات بعض الكتب، منها مقدمة كتاب: «أبحاث الفكر الخلدوني وخطاب الإصلاح.. ثلاثة أجزاء، صدر عن كلية الآداب جامعة البحرين-2006م»، كما نشر العديد من المقالات والدراسات المعمّقة في الصحافة المحليّة والعربيّة ومراكز الدراسات بلغ عددها (27) دراسة في مجالات مختلفة كالمسرح والقصة القصيرة والشعر والشأن العام، وله أيضا إحدى عشرة دراسة علميّة محكمة ومنشورة، وأشير من بينها إلى هاتين الدراستين، الأولى: «الحياة الأدبية في قلب الجزيرة العربية، الفترة الوسيطية، ونشرت في أربعة أعداد من مجلة البيان 1974م»، و«الشأن الثقافي المحليّ: الديمقراطية بين خيارات التنوع والفرص الضائعة - 2007م»، أمّا الدراسات المُحكمة فيمكن الإشارة هنا إلى «الثقافة بوصفها خطابا ديمقراطيا» التي صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية - 1992م، و«ميثولوجيا المعلقات، نموذج معلقة طرفة بن العبد البكري-1994م»، و«بواكير النقد الأدبي في الخليج العربي، المجلس الوطني للثقافة-1994م».

يكتب الناقد والمفكر إدوارد سعيد في كتابه (صور المثقف - 1997م) ما يلي: «الحقيقة المركزية بالنسبة إليَّ، كما أعتقد، هي أن المثقف وُهب ملَكَة عقلية لتوضيح رسالة، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة لجمهور ما، وأيضا نيابة عنه. ولهذا الدور محاذيره، ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء بأنه إنسان مهمته أن يطرح علنا للمناقشة أسئلة محرجة، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلّب العقائدي (بدل أن ينتجهما)، ويكون شخصا ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى ويُغفل أمرها على نحو روتيني. الناظر إلى اشتغال إبراهيم غلوم يجده اشتغالا منهمكا بالمجتمع وتغيراته، فهو لا يكف عن البحث في مواقع الثقافة ومنطلقاتها الحضارية لمجتمعات يكتب عنها أنها تعرضت لهزة عنيفة وزلزلة كبيرة عبر انتقالها من مرحلة الصيد إلى مرحلة اكتشاف النفط وتدويره، لقد ناقش غلوم هذه الزلزلة في أحد أهم كتبه «المسرح والتغير الاجتماعي في سوسيولوجيا التجربة المسرحية في الخليج العربي - 1986م»، وكان الكتاب بالنسبة إليَّ كباحثة أشق خطواتي الأولى مع المشهد المسرحي في مجتمعات الخليج من أهم الكتب المؤسَسَة، ولا أظن أن باحثا في هذه المنطقة إلا واستفاد منه ولجأ إليه. وعلى هامش أحد مهرجانات المسرح في الكويت، ناقشتُ غلوم في هذا الكتاب حول النتائج التي توّصل إليها، وفوجئت به يقول: إنه بدأ يُعيد النظر في النتائج التي وصل إليها! ثم جرى لنا لقاء ثان في مهرجان المسرح الخليجي بمدينة صلالة 2012م، وقدمتُ في حينها بحثا بعنوان (التجديد في الكتابة المسرحية الخليجية، محور- تجربة كتابة النصّ في المسرح الخليجي، في ندوة المسرح في دول مجلس التعاون (تجارب وشهادات)، وما كان من الأستاذ الناقد إلا أن نبهني في مداخلته على نقطة مهمة حول إطلاق بعض الأحكام خشية الوقوع في محاذير المصطلحات النقدية، ولا أنسى أيضا

حينما تواصلت معه عبر الهاتف بطلب شخصيّ ليساعدني في تزويدي بكتب ودراسات ومقترحات لمداخل عن السياسة في المسرح الخليجي، فكانت دهشته بسؤاله لي: وهل هناك مسرح سياسي لدينا؟ كان السؤال التشككي بمثابة طاقة تحفيزية لمناقشته والخروج من الحديث بنتيجة ما، وعندما حانت فرصة للسفر إلى البحرين، التقينا في مهرجان مسرحي وتناقشنا حول موضوعي البحثي الذي كنت أنوي دراسته في الدكتوراة، وبعد نقاش قال لي: انظري إلى التراث كغلالة مسرحية للسياسة، وربما ستجدين ما تبحثين عنه، ووافيني بما وصلتِ إليه من نتائج. كما جمعني معه لقاء آخر شكّل نقطة مهمة وذلك عندما كنتُ من ضمن اللجنة الرئيسة لمهرجان الفرق المسرحية الأهلية في ظفار، وكُلفتُ برئاسة النشرة اليومية للمهرجان، وحرصت كل الحرص على إجراء لقاء معه للمجلة، وكم كانت ملاحظاته حول محاور الأسئلة التي طرحتها عليه مبهجة له، وسعادتنا كفريق النشرة بذلك اللقاء المهم.

في خلفية ثقافية تعاني خليجيا وعربيا اليوم من ضمور صوت النقد والعقل الناقد الجّاد أمام تفشي الأيديولوجيات وتراجع مشاريع التنوير، ومع اضطراب المشهد المسرحي بالعديد من المصالح ونشوء التحزّبات فإنّ العودة إلى قراءة الجهود النقدية والفكرية لإبراهيم عبدالله غلوم مسألة إيجابية وضرورة ملحة.

تكتب الدكتورة ضياء عبدالله الكعبي رئيسة قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية، كلية الآداب، جامعة البحرين بمناسبة تكريمه التالي: «يُعد واحدا من أهم الأسماء النقديّة على مستوى المشهد النقديّ العربيّ تنظيرا منهجيا وإضافات إبداعيّة نقديّة رصينة. لقد تشكّل خطابه النقديّ والإبداعيّ عبر مراحل متعددة من التكوّين التأسيسيّ الأول في السبعينيات وصولا إلى محايثة النظريات النقديّة الحديثة منذ ثمانينيات القرن الماضي»، وتجليات هذه الصورة كما يُعبّر عنها غلوم في كثير من اشتغالاته، هي إحدى صور المثقف التنويري والتي لا تتمّ أو تتحصّل إلا بالوعي المجتمعيّ لدور المثقف ورسالته في المجتمع، أو كما أشار عنها إدوارد سعيد أعلاه «تبيان الرسالة بألفاظ واضحة».

لقد أدرك إبراهيم غلوم هذه الرسالة غير مشكك في «قدرة الإبداع والممارسة المسرحية خاصة على خلق أبنية مغايرة للوعي السائد في الواقع». لذلك أسهم في مسيرته الفكرية منطلقا من رسالة المثقف العضوي إلى إرساء ثقافة التأسيس للعديد من المشاريع الثقافية والأنشطة الأدبية كالنشاط الثقافي والأدبي العام في البحرين مثلا، فشارك في تأسيس جمعيات وفرق مسرحية أهلية منها «جمعية تنمية الطفولة، وفرقة مسرح الصواري، وجمعية التراث الشعبي». أما على صعيد دول الخليج العربي فأسهم في تأسيس «عدد كبير من الندوات والمؤتمرات الأدبية والمسرحية والثقافية التي انعقدت على مستوى دول مجلس التعاون، وقدم خلالها أبحاثا وأوراقا أساسية، وكتب العديد من الأبحاث الاستراتيجية حول واقع الثقافة ومستقبلها»، كما قام بصياغة أنظمة وتشريعات ثقافية عديدة لمؤسسات رسمية وأهلية. واستمر ذلك العطاء والتوهج في حياته عبر المشاركة في عدة مجالس وهيئات استشارية كعضو هيئة مشروع بروتا (ترجمة آداب اللغة العربية) والهيئة العربية للمسرح، والمجلات الثقافية، كما شارك بالتحكيم في الأبحاث المقدمة للترقيات العلمية في عدد من الجامعات منها: جامعة الكويت، وجامعة الملك عبدالعزيز، وجامعة السلطان قابوس، وجامعة الخرطوم، والجامعة الأردنية. وحكّم في عدد من المسابقات والمهرجانات الأدبية والثقافية والمسرحية، وحكم في جائزة سلطان العويس للثقافة العربية دورتين متواليتين 1989-1990م، وجائزة أنجال الشيخ هزاع آل نهيان في مجال ثقافة الطفل-2003م، وجائزة كانو للثقافة العربية وغيرها الكثير يصل إلى (42) مشاركة.

وللناقد عبدالله غلوم أيضا مساهمات بارزة في تنظيم وتصميم وتنفيذ دورات تدريبية عديدة منها: «دورة التدريب على الجمع الميداني للمواد الثقافية من المأثور الشعبي (الحكاية الشعبية العربية) التي نظمها مركز التراث الشعبي، وقدم فيها سلسلة محاضرات عن الحكاية الشعبية العربية لدول الخليج العربي في قطر عام 1986م، وشارك أيضا في عدد كبير من الأنشطة الثقافية منذ عام 1970 وحتى الآن، جاوزت مائة وعشرين مشاركة.

انطلاقا من أن النقد رؤية فكرية وفلسفية وممارسة أكاديمية تنويرية في بناء الإنسان، وأنّ مهمة الناقد تقديم قراءة واعية مبنية على التفاعل الجدّلي الحاصل في الحياة، وأن هذا الوعي يتطلّب الاطلاع الواسع على النظريات المعرفية والتيارات النقدية، حتى يتمكّن الناقد من تأسيس بناء جدّلي قائم على القراءة والتفسير والتأويل، لمجموع فنون الحياة وآدابها. لقد سعى الناقد غلوم في أحد كتبه المهمة (المسافة وإنتاج الوعي النقديّ - أحمد المناعي والوعي بالحركة الأدبية الجديدة في البحرين 1925-1958م) إلى استجلاء ثقافة نقد الذات، فيكتب الدكتور عبدالقادر المرزوقي-أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد، جامعة البحرين - في ورقته المعنونة (وعيّ المسافة): «إن مقدمة هذا الكتاب تسطّر منهجا نقديًا استغرق أربعة فصول، لم يخضع هذا المنهج النقديّ لصرامة علم النظريّة في النقد لأنّ الكاتب كما يقول «لا أفصّل المقدمات النظرية ولا أتقصدها بأسلوب الدراسات الأكاديمية، وإنّما أعتمد استلهام التجربة النقديّة التي وضعت حدثها بأسلوب يتسم بالمعايشة الطويلة والاقتراب منها حد التصوّر الذي يحايث البنية المكونة لها لتعارضاتها...».

بالإشارة إلى الفقرة السابقة، فإن من أظهر الخصائص التي تتسم بها ممارسة النقد والثقافة النقدية لدى إبراهيم غلوم، حسّه المبكر بالمراجعة النقدية لأفكاره السابقة وإخضاعها للتبصّر والتحليل، وهو ما يُمكن الاصطلاح عليه بتعبير المرزوقي «منهجية النقد، ونقد النقد في الوقت ذاته»، وقد اتضحت تلك الممارسة منذ كتبه الأولى ولازمته في تطوره المعرفي.

يُعد تكريم الناقد عبدالله إبراهيم غلوم المولود في مدينة الحد - البحرين من التكريمات الاستثنائية التي يفخر المرء بها، لِما شكله في مسيرته النقدية من مواقف جاءت خدمة للثقافة والتنوير في مجتمعات الخليج العربي. وفي ذلك اللقاء الذي تفضلت زوجة الدكتور دعوتنا لزيارته إلى بيته في 3 مارس 2023م، كم كنتُ سعيدة وممتنة ومدينة له بالفضل عندما شكرنيّ قائلا: «أشكرك على التفاتك لكتاب الخاصية... لقد قدمتِ إضاءات جيدة».

ختاما، عندما وجهت لي الدكتورة ضياء الكعبي دعوة للمشاركة في تقديم ورقة بحثية ضمن أحد محاور الكتاب الثلاثة: (شهادات، وقراءات في الخطاب النقدي والإبداعي للناقد غلوم، وإهداءات)، لم أفكر أو أتردد كثيرا، وافقت على الفور من منطلق الوفاء وتقدير الجهود الصادقة التي قدمها الباحث، ولإيماني بأنّ إبراهيم عبدالله غلوم ناقد استثنائي يستحق التكريم، فجاءت مشاركتي في المحور الثاني بعنوان: (الخاصية المنفردة في الخطاب المسرحي -دراسات نقدية- كتاب عن المسرح الخليجي ونقده)، وسُجّل على غلاف الكتاب الصادرة طبعته الأولى عن (ابن النديم - الروافد الثقافية ناشرون-2023م) التالي: «لقد صدرت فكرة هذا الكتاب التكريمي (الجهود النقديّة والفكريّة للأستاذ الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم أعمال ثُلَّة من الأساتذة الباحثين) عن رغبة قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية في الاحتفاء بالمنجز النقديّ والإبداعيّ للناقد البحريني الذي هو مؤسس القسم وأحد أهم أساتذته، والجامعة بذلك تُدشّن تقليدًا أكاديميًا رصينا في الاحتفاء بعلاماتها النقديّة التأسيسيّة، وهي تقاليد الجامعات العلميّة العريقة». فما أحوجنا لمثل هذه التقاليد.