دبلوماسية الغوغاء

28 فبراير 2023
28 فبراير 2023

هل ما زالت السياسة الخارجية السليمة والتطلعية ممكنة؟ أثناء حديثي مع رجال الدولة والدبلوماسيين ورجال المخابرات والعلماء المجتمعين في مؤتمر ميونخ للأمن الأسبوع الماضي، كانت لدي شكوك.

لنتأمل العلاقات الأمريكية الصينية.. قبل شهر فقط ألقى نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي خطابا تصالحيا اعتبره بعض المراقبين جزءا من هجوم ساحر يستهدف الغرب. بعد ذلك، كان الكثيرون يأملون في أن تؤدي رحلة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين، المخطط لها سابقا إلى الصين هذا الشهر، إلى مزيد من التوتر بناء على اجتماع ليو الأخير مع وزيرة الخزانة جانيت يلين، وكذلك الرئيس الصيني شي جين بينج والرئيس الأمريكي جو بايدن وجها لوجه في بالي في نوفمبر.

ولأنهما يميلان إلى منافسة قوية، بدا كلا الجانبين حريصا على وضع سقف للتنافس بينهما، مدركين أن هناك حاجة إلى مزيد من الاتصال المتكرر لتفادي أي سوء فهم أو التصعيد العرضي. ولكن بعد ذلك جاءت قصة المنطاد الصيني، التي أنهت أي فكرة عن الاسترخاء. حاولت إدارة بايدن الحفاظ على أعصابها. لكن سرعان ما فرض الرأي العام نفسه على اتخاذ قرارات الأمن القومي.

وفسر منتقدو بايدن على التلفزيون وتويتر والقنوات الإعلامية الأخرى ضبط النفس على أنه ضعف، وبعد فترة وجيزة، تم تأجيل رحلة بلينكين إلى بكين. أسقط الجيش الأمريكي المنطاد بعد أسبوع من ظهوره، ثم تابع تدمير ثلاثة أجسام أخرى مجهولة الهوية في المجال الجوي الأمريكي، اعتُبرت جميعها لاحقا على الأرجح «حميدة». وردًا على ذلك، ورد أن مسؤولي الدفاع الصينيين رفضوا تلقي مكالمات من نظرائهم الأمريكيين.

لم تكن الولايات المتحدة تتصرف بناءً على معلومات استخباراتية بشأن تهديد وشيك، وهناك الآلاف من البالونات في الهواء في أي يوم، واتفقت المخابرات الأمريكية على أن الجسم المخالف لا يشكل أي تهديد مادي. لكن إدارة بايدن شعرت بالحاجة إلى الظهور بمظهر قوي في نظر الجمهور الأمريكي، والآن أصبحت العلاقة بين الولايات المتحدة والصين على أرضية متزعزعة أكثر مما كانت عليه من قبل.

يستحضر إسقاط المنطاد وصف جورج أورويل المؤثر لإطلاق النار على فيل في بورما في عشرينيات القرن الماضي. وسلم أورويل الشاب بندقية وطلب منه اصطياد فيل مارق، ليكتشف أن الحيوان في الواقع غير ضار تمامًا. ومع ذلك، فهو يشعر بأنه مضطر لإطلاق النار عليه لكي يظهر بشكل حاسم أمام السكان المحليين. وقال لاحقًا: «كانت حياتي كلها، حياة كل رجل أبيض في الشرق، صراعًا طويلًا لا يجب السخرية منه».

لم يكن الحوار المفتوح والصادق بين القوتين العظميين في العالم أكثر ضرورة من أي وقت مضى، لكن الحاجة دائما إلى إظهار القوة تجعل الدبلوماسية صعبة للغاية. هذا صحيح بالتأكيد في بيئة إعلامية يقودها تويتر، وتنبيهات الأخبار الفورية، التي لا تؤدي إلا إلى زيادة التصعيد، وبينما قد يكون «شي» محميًا من وسائل الإعلام الناقدة والمعارضة المحلية، فإنه يواجه أيضا ضغوطا متزايدة لعدم التنازل لوشنطن عن شبر واحد.

الأكاديميون الصينيون البارزون مثل جين كانرونج يبدون قوميين بشكل متزايد، يطالبون -على سبيل المثال- بإجبار طائرة رئيس مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي على الهبوط، إذا حاول متابعة زيارة مخططة لتايوان.

عندما خاطب وانج يي عظماء السياسة الخارجية المجتمعين في ميونخ، لم ينطق بكلمات رقيقة، كان رد فعل أمريكا على البالون «غير معقول، يكاد يكون هستيريا»، ويشكل «استخداما مفرطا للقوة، ومن الواضح أنه -ينتهك- القانون الدولي». وأسفر اجتماع تم الترتيب له على عجل بين بلينكين ووانج على هامش المؤتمر عن مزيد من الاتهامات المتبادلة.

لفهم التقلبات الجيوسياسية الحالية، يجب على المرء أن ينظر إلى ما وراء القوى الكبرى وكبار الاستراتيجيين، ويبدو أن الرأي العام الآن في مقعد القيادة، وهي ظاهرة عالمية. نظرًا لأن الناس في جنوب آسيا وجنوب شرق آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء يستخدمون الإنترنت، فإنهم يجعلون أنفسهم مسموعين، ويجبرون حكوماتهم على دمج آرائهم في قرارات السياسة الخارجية.

بشكل حاسم، يرى معظم الناس في جميع أنحاء جنوب الكرة الأرضية العالم بشكل مختلف تمامًا عن نظرائهم في الغرب. وأظهر استطلاع جديد أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنه بينما يتقارب الأوروبيون والأمريكيون بشأن نهج أكثر تشددا تجاه روسيا، ويريدون أن تستعيد أوكرانيا جميع أراضيها، فإن الناس في الصين والهند وتركيا و(بالطبع) روسيا يريدون أن تنتهي الحرب في أسرع وقت ممكن، حتى لو كان ذلك يعني هزيمة أوكرانيا.

تظهر هوة أكبر على شكل النظام العالمي. ويتوقع الأوروبيون والأمريكيون ظهور عالم ثنائي القطب منقسم بين الصين والغرب، حيث ستعمل العديد من الدول الأخرى كـ«دول متأرجحة»، كما حدث خلال الحرب الباردة، لكن آخرين -بمن فيهم كثيرون في الصين- يرون أن العالم يتجه نحو التشرذم، مع قوى متعددة تتنافس على النفوذ.

السؤال، إذن، ليس أي كتلة منافسة تختار، ولكن كيفية العمل بطريقة براغماتية مع الجميع لحماية مصالح المرء. بدلا من عزف لحن كتبه الآخرون، تريد معظم البلدان أن تكون قادرة على غناء أغنيتها الخاصة.

بدا أن وانج قد فهم ذلك في خطابه في ميونخ أكثر من نائب الرئيس الأمريكي كامالا هاريس. حاولت هي والمتحدثون الأمريكيون الآخرون حشد بقية العالم وراء فكرة الديمقراطية، بينما دعت أيضا إلى المحاكم لمحاكمة جرائم الحرب الروسية. ولكن على الرغم من الترحيب بهذا الخطاب في أوروبا الشرقية، فإنه يهدد بمزيد من نفور الكثيرين الآخرين حول العالم. فهذه الدول لا ترى فقط ازدواجية المعايير في العمل، كما أنهم يلجأون إلى فكرة أنه يجب إجبارهم على اختيار جانب في نزاع لم يتسببوا فيه.

على النقيض من ذلك، جادل وانج بأن جميع البلدان يجب أن تكون قادرة على اختيار مساراتها الخاصة، حتى عبر بذكاء عن دعمه «للحكم الذاتي الاستراتيجي الأوروبي». وعندما دعا إلى خطة سلام لأوكرانيا، لم يكن يتحدث إلى القادة الوطنيين والدبلوماسيين في قاعة مؤتمرات بايريشر هوف بقدر ما يتحدث إلى بقية العالم، ويجب أن يعرف بالتأكيد أن وقف إطلاق النار الذي يرسخ المكاسب الإقليمية الروسية سيكون أمرًا لا يمكن تصوره بالنسبة لكييف، وبالتالي فهو ليس اقتراحا جادا، لكن هدفه هو أن يبدو منطقيا ويتهم أوكرانيا وداعميها الغربيين بالتصعيد.

في الوقت الحاضر، تلعب جميع البلدان -حتى الديكتاتوريات- دور الجماهير، وتم دفع الدبلوماسية الحقيقية إلى الهامش.