نوافذ...مباركون بحاضرنا
نعيش بين مفترقين؛ يمثلهما زمانان؛ زمن ماض، وزمن حاضر، والحضور هنا ليس شرطا أن يكون ماديا صرفا، فقد يكون شعورا تحتضنه أنفسنا – متعبة أو غير متعبة – ليس مهما في هذه اللحظة الحاضرة، فالناس هم هكذا وفق هاتين الحالتين (متعبة/ غير متعبة) والذي يحدد كلا الحالتين هو الإنسان نفسه؛ انعكاسا للظروف النفسية التي يعيشها، وليست المادية، فالمادة "حمالة أوجه" قد تتوجه بصاحبها إلى الهلاك، وقد تتوجه بصاحبها إلى الأمن والسلام، فالمقياس هنا هو الإنسان نفسه، وليست المادة، وليست الظروف المحيطة أيضا؛ نعم؛ هذه كلها تمثل جزءا غير منكور في احتساب مسألة الربح والخسارة لمفهوم المادة، ولكنها ليست كل شيء، ومن هنا تنبرئ القناعة كقاعدة مهمة لتجاوز إشكاليات المادة، وإشكاليات كل الظروف التي تطورها المادة، أو تلقي بها في مكب النفايات، على أنها ليست هي من يحمل كل تبعات الشقاء والهلاك التي يعيش بها الإنسان نفسه، ومن هنا أيضا يأتي مفهوم التوكل؛ بعد العمل؛ ولو قدم التوكل على العمل لضاعت الحكمة في الحياة، ولتاه الإنسان أكثر في متون قضاياه التي لا تنتهي.
أمر استجلاب بركة الحاضر ليس متاحا لأي أحد، فالمسألة مرتبطة كثيرا بكم هائل من القناعات، وتجربة الحياة، ولذلك نسمع الشكاوى من كل جانب، والتذمر؛ ربما؛ أكثر منها، ونسمع الإشارات الملونة تجاه الآخر، ونسمع السباب والشتائم، ليس لأن هناك نقص ما، وهو ما يثير هذه الهبة المعبرة عن قدرة الواقع على هزيمة الإنسان في حاضره، بينما يفترض أن يكون العكس، وهو قدرة الإنسان على هزيمة واقعه، هذه الصورة ليست متخيلة، أو مستجلبة من بيئات بعيدة، لأن كل البيئات تعيش نفس هذه المعاناة، فالنهاية هؤلاء بشر، تتقاذفهم ظروف مختلفة، فيجعلوا منها ملاذا للحديث المشتكى إليه، مع أنهم هم صانعوه.
(مباركون بحاضرنا) لأنه الفرصة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن ينزع نفسه من قضايا الأمس وخلافاته، ومن قضايا الغد وإشكالاته، فالأمس ولَّى ولن يعود، يعني التفكير فيه ضياع للعمر، ومنغص للنفس، والغد؛ لم تشرق شمسه بعد، فقد تمر بحالة كسوف، وقد تستولي عليها السحب الركامية، فماذا يستفيد الذي يضع نفسه في خانة القلق لما تؤول إليه حالة الغد، إذن وما دام الأمر كذلك فالمتاح الآن بكل حمولته هو الحاضر، ولكل واحد أن يكفيه على الصورة التي تناسب ظروفه، وتهنأ به نفسه، فمشاكلنا غالبا ولَّتْ مع أعمارنا التي ودعتنا قبل لحظات من حاضرنا، ولا ندري عن مشاكل الغد، ولذا لن يعنينا هذا الغد حتى نصل إليه، وبذلك نزيح أهم ثقلين من رؤوسنا الأمس والغد، ويكون الحاضر هو المساحة الآمنة التي نكيفها ونتكيف معها، لإشباع كل رغباتنا المتاحة لنا، ولن نكون معنيين كثيرا بما هو غير متاح، حتى لا نقع في إشكاليات نحن في غنى عنها. (مباركون بحاضرنا) لأننا نحن من يصنع مادته، ومن يهنأ بملذاته، ومن يحيد توجهاته، ومن يذهب به نحو المآلات الآمنة، والملاذات الصحيحة، فتجربة حياتنا تقاس بما نحن عليه في حاضرنا، كما نحن مسؤولون عن نجاحاته وهزائمه أيضا، والأمر ليس بالبساطة التي نتحدث عنها، فالمسألة مرتبطة بجهد مضنٍ يستنزف الكثير من جهدنا، ولكن لا يغربنا عن حقيقتنا التي نريد.
