هل أتبع قائمة رشحها قارئ آخر؟

21 فبراير 2023
21 فبراير 2023

طوال سنوات دراستي في الخارج، لم تكن لي علاقة مباشرة بمعارض الكتب المحلية، وكنتُ في حالة من الاتصال والانقطاع عن وسائل التواصل الاجتماعي، لكنني أتذكرُ جيدًا أن أول فرصة شاهدتُ فيها خيارات القراء الشباب من معرض مسقط الدولي للكتاب، هالني التقاطع فيما بينها. في ذلك الوقت فكرتُ أنها تسليم بوصفة قد تكون جيدة أوصى بها أحدهم، لكنني ومع مرور الوقت بتُ أقرأ هذا المشهد بطريقة مختلفة، لا تختلف القراءة عن أي نشاط آخر، نحن بحاجة مستمرة لأن ننتمي إلى مجتمع ما، جماعة صغيرة تمتلك لغتها وتستطيع التواصل فيما بينها، خصوصًا إن كانت مجموعة مطاردة من قِبل الأيديولوجيا، ويهمها أن تمسك بزمام الاستعارات المقلقة للعالم الذي تعيش فيه على طريقة تشارلز سيميك. وإنني هنا لا أحاول خلق حالة من «التعاطف» الاستعلائي مع التسليم بهذا السلوك الذي ينزع لتقليد الآخرين أو تبنّي قوائم كتبهم المفضّلة، بل على العكس من ذلك أؤكد على القدرة الحقيقية والمهمة التي يمنحها هذا التوق للتضامن والتواصل واللقاء.

مع ذلك فإن ما نكتشفه كل يوم، كيف أن هذا الشكل من التضامن، لا ينفي على الإطلاق إمكانية تحديد مواقعنا الشخصية والفردانية داخل هذه الجماعة نفسها، حتى ينتج عن ذلك التوق، تعددية وفوضى هائلة، إذ نتلقى كقرّاء ما يقرأه كل واحد منا بطريقة مختلفة، وبالتالي فإن معالجة ما نقرأ تفضي لأسئلة جديدة، وهواجس جديدة بطبيعة الحال، الأمر يشبه طريقة استزراع النعناع أن عودًا واحدًا يمكن أن يخلق حديقة ممتدة. مما يجعل أعواد النعناع القادمة معرّضة للهواء على السطح وحدها، ويمكن أن تتربص بها وحشية هذا العالم في الخارج بصورة مباشرة وخاصة، لذا هل ينبغي في هذا الوقت أن نجد وصفتنا الخاصة بنا؟ هذا ما يحدث غالبًا، إذ أننا نصطدم بالواقع المباشر ونتفاوض معه، مما يعني أننا سنجدُ طريقنا على نحو ما.

يدهشني كيف أن ذلك يظهر في تنويعات عديدة في علاقتي مع القراءة، لقد درجتُ على قول يبدو أنني الآن فقط تعلمتُ كيف أقرأ جيدًا! تضحكني هذه الفكرة الآن وأخجل من الاعتراف بها، لكن هذا ما يحدث بالفعل. عندما بدأتُ فعليًّا بإدراك العلاقة الوثيقة بيني والكتب، حاولتُ معرفة ما يقرأه الآخرون، وكان لديّ نهم كبير لقراءة كل شيء، لا بد وأن هذا ساعدني جدًا في وقت لاحق، إذ لم أكن قد حددتُ ما أريده، يتوازى هذا مع عدم تعريفي لنفسي أصلًا، مع قلقي «الهووي» الطبيعي ربما، قرأت في الدين وفي الأدب أكثر من كل المجالات الأخرى، وقد كانت طبيعة المجال العام في البلد التي أدرس فيها، تسهم في دفعي لتحديد ما أنا عليه؟ وهل يفترض بي أن أكون سمةً واحدة؟ طابعًا واحدًا مفهومًا؟

ثم وجدتُ أن علاقتي تتوثق بالأدب، لكن الأدب واسع. فقرأتُ الأدب الكلاسيكي، ثم وجدتُ أنني ما زلت جائعة للتعرُّف على نفسي كما تعيش اليوم، فملتُ بطبيعة الحال لقراءة الأدب المعاصر، ثم وجدتُ نفسي أسائل رغبتي هذه، لماذا أقرأ الأدب الأوروبي فقط؟ عليّ أن أقرأ أدب الهامش، أدبًا بعيدًا عن المركز، وهكذا في كل مرة كنتُ أجد نفسي أُفاجأ بأنني أقرأُ للمرة الأولى. أتذكر جيدًا بعد سنوات من الكتابة والقراءة أن تعثرت أثناء قراءتي كتاب «سؤال الهوية» للكاتب المصري شريف يونس في مقدمته التي تحدث فيها عن المنهج الذي يستخدمه في تحليل القضايا محل معالجة الكتاب فيقول: «سوف يلاحظ القارئ بالطبع أثر مجمل أفكار ما بعد البنيوية، وبصفة خاصة أعمال ميشيل فوكو، وكتاب ليوتار: الوضع ما بعد الحداثي وبعض أفكار بورديو. غير أنه ينبغي الإشارة أيضًا إلى تأثير ماركس، ليس فقط من حيث استخدام مصطلحاته، ولكن أساسًا منهجه كما أفهمه. وأقصد هنا على وجه التحديد مبدأ نبذ الميتافيزيقا ومبدأ تحليل الأفكار في سياقها الاجتماعي الشامل، وفوق ذلك كله مبدأ التفسير الشامل، الذي أعني به التخلي عن التقييم بطريقة الصح والخطأ لصالح تفسير «الوعي الزائف» ذاته، باعتباره واقعًا له مبرراته... وبالطبع فإن هذا التأثر لا علاقة له بالماركسية المحلية التي تحولت بحكم عادة متأصلة في الثقافة المصرية -إلى دين لدى البعض يتمحور حول فكرة الصراع الطبقي ويمارس وجوده الفكري بمنطق صراع المؤمنين ضد الكفار- حينها توقفتُ كثيرًا وبدأتُ بالإدراك كما لو أنني أقرأ للمرة الأولى لمرة أخرى جديدة عن المناهج التي يتم من خلالها مقاربة الظواهر، والتي تطرحها النظرية الاجتماعية. فهنا يتوخى الكاتب طابعًا ماركسيًّا متلمسًا الطابع النقدي الموضوعي والواقعي وليس الميتافيزيقي كأن ينتمي تحليل الأفكار للمثالية الكانطية بل وفقًا لبنيتها وشروطها الاجتماعية وعلاقتها بالسلطة وشروط الإنتاج. وأنا الآن أقرأُ في هذا وأعتقد أنني أُجرب القراءة لأول مرة!

هل آخذ بقوائم الآخرين إذن؟ أعتقد أن هذا مهم إلى حد ما، لطالما ساعدتني خيارات كتابي المفضلين في الوصول لأعمال لم أكن سأعرف عنها، ساهمت في بناء معرفتهم التي أنتجت كتاباتهم التي أعجبتني، بل إنني ومع مرور الوقت بدأت أدقق في أطياف أولئك الكتاب على من دفعني لقراءتهم في بادئ الأمر، وهكذا أجد نفسي غارقة في شبكة لم تسجني بل على العكس، أطلقتني نحو وجهاتي الشخصية المنتقاة، وجعلتني أكثر يقظة وحذرًا في هذه الرحلة، حتى للإمكانيات الهائلة في العناوين التي لم أسمع بها قط، وكيف أميز كتابًا عن كتاب آخر. جاء مرة بينما كنت أعمل بائعة في مكتبة، رجل في منتصف العمر قائلًا إنه لم يقرأ قط رواية في حياته كلها ويجد أنها تافهة. سألته عن الكتب التي يحبُ قراءتها في العادة، وعما يشغله هذه الأيام، التقاعد؟ تقدم الأبناء في العمر؟ كان حديثًا حميمًا انتهى بأن رشحتُ له رواية قلت بأنني أظن أنها ستعجبه وتسليه هذه الأيام، جاء بعد يوم ونصف وقد أنهى العمل الذي يزيد على 500 صفحة متشوقًا لقراءة المزيد! ما أريد قوله إن الفكرة ليست في درجة الامتثال لترشيحات الآخرين من عدمه، بل في الانفتاح على ما هو بعيد عنا وقد لا يشبهنا بالضرورة، والفضول الدائم الذي هو علامة على الصحة والمعافاة. كل عام وكل القراء في سلطنة عمان بخير بمناسبة الدورة 27 من معرض مسقط الدولي للكتاب، استمتعوا كثيرًا.