أمريكا والقضية الفلسطينية والجري وراء السراب

31 يناير 2023
31 يناير 2023

منذ ظهور الكيان الإسرائيلي إلى العلن بعد الانسحاب البريطاني من فلسطين الذي كان مخططا له؛ لإفساح المجال للعصابات الصهيونية لاحتلال فلسطين وطرد شعبها عام ١٩٤٨ كانت الولايات المتحدة الأمريكية القوة الصاعدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تعترف بالكيان الإسرائيلي كدولة بعد أيام، وكان ذلك إيذانا بتحول الدعم والمساندة السياسية والاقتصادية والعسكرية من لندن إلى واشنطن، خاصة أن ملامح اضمحلال وانتهاء سطوة الإمبراطورية البريطانية كان واضحا.

ومن هنا فإن الولايات المتحدة الأمريكية لعبت دورا سلبيا ومدمرا طوال سبعة عقود ضد القضية الفلسطينية، ولا تزال، ولعل الذي يجعل الحكومات الإسرائيلية المتطرفة المتعاقبة منذ بن جوريون أول رئيس حكومة للكيان الإسرائيلي متشددة، وتقوم بالانتهاكات والقتل وهدم المنازل، وهو شعور تلك الحكومات والأحزاب المتطرفة بأن الدعم الأمريكي سيساند أي تصرف أو سلوك إسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، ومن هنا يمكن تفسير كل بشاعة السلوك الإسرائيلي على مدى سبعة عقود.

الولايات المتحدة الأمريكية بإداراتها المتعاقبة جمهورية أو ديمقراطية لا تختلف في ثوابتها تجاه الكيان الإسرائيلي، بل إن موضوع إسرائيل يناقش داخل الكونجرس وداخل البيت الأبيض ومراكز صنع القرار، على أنه موضوع محلي وقد سمعت ذلك في إحدى الزيارات للولايات المتحدة الأمريكية، بل إن أحد المتنفذين يقول: إن هذا التوجه المساند للكيان الإسرائيلي يتم توضيحه بشكل مباشر للقيادات العربية عند زياراتها لواشنطن وعلى مدى عقود. كما أن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت حق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي عشرات المرات ضد أي قرار أو حتى بيان يدين السلوك الإسرائيلي المشين ضد المدنيين الفلسطينيين، وهدم منازلهم والاستيلاء على ممتلكاتهم ومزارعهم. كما أن الدعم العسكري متواصل من خلال تزويد الكيان الإسرائيلي بأحدث الأسلحة الفتاكة، التي تكون مخصصة للجيش الأمريكي وتمنعها عن جيش عربي، كما أن الدعم الاقتصادي متواصل وبمليارات الدولارات وعلى أي رئيس أمريكي أن يظهر الولاء لإسرائيل جزء من تطمين قوى الضغط اليهودية في واشنطن.

ومن هنا وعلى ضوء تلك المقدمة فأن الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ تسلمها ملف الصراع العربي الإسرائيلي وهي تنحاز بشكل سافر ضد الحقوق الفلسطينية المشروعة وضد الحقوق العربية في الجولان والأراضي اللبنانية في الجنوب، والسؤال الأهم هنا وعلى ضوء المشهد الفلسطيني، هل هناك ثقة بالوساطة الأمريكية، وهل يرجى من واشنطن في هذه المرحلة وحتى بعد عقود أن تنصف القضية الفلسطينية والقضايا العربية؟ الإجابة أن واشنطن لن تفعل ذلك، وأن أي آمال عربية على الدولة الأمريكية هو مجرد سراب، وهذا ليس تحليلا عاطفيا، ولكنها الواقعية السياسية بعد مضي سبعة عقود. ومن هنا فأن أمام العرب تحديدا مرحلة في غاية التعقيد والصعوبة تنطلق أولا من الواقع المر الذي يعيشه العرب منذ عهود الاستقلال.

فالحروب العربية متواصلة والخلافات متواصلة والمشكلات الاجتماعية والاقتصادية موجودة، وربما تكون دول مجلس التعاون الخليجي قد حققت بعض التقدم في مجال التنمية، لكن لا تقارن بالتنمية الصناعية والتقنية التي حققتها دول جنوب شرق آسيا بقيادة اليابان، وهذه الأخيرة واجهت القصف النووي الأمريكي الوحشي علي هيروشيما ونجازاكي، وهو الوحيد في التاريخ، ولا يقارن بالتوهج الصيني العالمي خلال أقل من ثلاثة عقود لتقفز إلى المركز الثاني على الاقتصاد العالمي.

كما أن الوضع الفلسطيني تأثر بالحالة العربية حيث الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، وهناك تشرذم فلسطيني جعل إسرائيل تواصل سلوكها الإجرامي ضد الشعب الفلسطيني، ولعل تواصل عمليات القتل هي خير دليل.

القضية الفلسطينية تعتمد الآن وخلال العقود القادمة على المتغير الاستراتيجي الوحيد، وهو صمود الشعب الفلسطيني وصموده ومقاومته للاحتلال، وهذا هو ديدن الشعوب الحرة والمناضلة طوال التاريخ الإنساني، ولعل هذا المتغير الأساسي هو الذي يثير مخاوف إسرائيل خاصة وأن العامل الديموغرافي في السنوات الأخيرة هو لصالح الشعب الفلسطيني من خلال الزيادة السكانية في الضفة الغربية وقطاع غزه والقدس المحتلة وحتى في أراضي فلسطين عام ١٩٤٨. ومن هنا فأن المشهد السياسي العربي أولا لا يمكن التعويل عليه في ظل الظروف والتشرذم الحالي، كما أن الجامعة العربية في تصوري أصبحت مجرد منتدى سياسي وإصدار البيانات، وتزايد البيروقراطية فيها، كما أن الخلافات الفلسطينية تشكل عاملا سلبيا، ومع ذلك فأن حركات التحرر والمقاومة كحماس تبقى صامدة وتشكل فاصلا مهما للكيان الإسرائيلي، ومن هنا فأن المعيار الأهم هو صمود الشعب الفلسطيني، وإذا حدث حل شامل وعادل للسلام في يوم فأن ذلك سوف يكون رضوخا من الكيان الإسرائيلي لمقاومة الشعب الفلسطيني، وأن هناك في إسرائيل من وصل إلى قناعة بأن استمرار الاحتلال الإسرائيلي لن يكون في صالح الأمن لإسرائيل، وهنا يمكن للعرب دعم الشعب الفلسطيني من خلال التنمية الشاملة ودعمه اقتصاديا؛ لأن الشعب الفلسطيني هو الأداة الوحيدة التي سوف تقرر مصير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وليس هناك عامل آخر يمكن التطرق إليه.

كما أن حالات التطبيع بين عدد من الدول العربية والكيان الإسرائيلي هي لأسباب تتعلق بالرضا الأمريكي على الصعيد الرسمي، فالشعوب العربية تظل مواقفها راسخة تجاه القضية الفلسطينية، ولعل نموذج الشعبين المصري والأردني واضح، فرغم اتفاقيات السلام بين الكيان الإسرائيلي وكل من مصر والأردن على الصعيد الرسمي، إلا أن الشعبين المصري والأردني ظلا أوفياء لقضية العرب المركزية، وهي القضية الفلسطينية ومسجدها الأقصى المبارك في القدس الشريف. وعلى ضوء تلك المحددات السياسية على صعيد القضية الفلسطينية فأن الوسيط الأمريكي لا يعتمد عليها، وأن البحث عن خيار دولي آخر هو الأهم. فالمجتمع الدولي وعلى ضوء قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام ٢٠٠٢، وحل الدولتين هما أساس الحل الواقعي العادل والشامل، والولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الوسيط غير النزية لن تغير ثوابتها، وسوف تظل إسرائيل كما لو كانت الولاية الواحدة والخمسين، فهناك تعاطف ديني وثقافي أمريكي على مستوى النخبة والساسة في الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الإسرائيلي، كما أن هناك قوة ضاغطة لليهود في الولايات المتحدة الأمريكية من خلال السيطرة على مفاصل الاقتصاد الأمريكي خاصة على البنوك الكبيرة، والإعلام، ومراكز البحوث ولعل المنظمة اليهودية الايباك هي أحد أهم أذرع الكيان الإسرائيلي في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي المحصلة الأخيرة فأن واشنطن لن تكون في صف الحق العربي على الإطلاق، وهي قد فعلت ذلك على مدى سبعة عقود، ولعل إيجاد عقد مؤتمر دولي للسلام في هذه المنطقة، وضغط كل القوى الدولية والإقليمية على الكيان الإسرائيلي، وتطبيق قرارات الشرعية الدولية مع تواصل كفاح الشعب الفلسطيني، وإيجاد المصالحة الوطنية الفلسطينية هو إخراج القضية الفلسطينية إلى مناخ أفضل وحركة سياسية، وأن تواصل الاعتماد على واشنطن هو الجري وراء السراب.