مرحلة البناء والنماء المتجدد لعُمان
شاءت الأقدار الإلهية أن ينتقل إلى رحمة الله السلطان قابوس بن سعيد في العاشر من يناير2020 بعد معاناة مع المرض لعدة سنوات، وأن يتولى جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في اليوم التالي بحمد الله، وفق ما تم في الوصية التاريخية التي كانت معدة من السلطان الراحل -رحمه الله- حيث جاء في صيغة اختياره لجلالته وفقه الله بقوله: (رغبة منا في ضمان استقرار البلاد)، ومن هنا أتت قضية التوصيف، لماذا هذا الاختيار ومعطياته؟ وجاء هذا الرأي كونه ـ كما قال السلطان الراحل ـ «ذلك لما توسمنا فيه من صفاتٍ وقدراتٍ تُؤهله لحمل هذه الأمانة»، وهذا الانتقال السلس لسلطة الحكم في عُمان، أعطى انطباعًا رائعًا ولافتًا ينم عن تقدير لما يدور في العقل الجمعي للعائلة المالكة العمانية لانتقال السلطة بعد الاتفاق على قبول الوصية كما وضعت، وهذا الانطباع المميز لاقى سعادة لا توصف، من شمال بلادنا إلى جنوبها؛ لأن الأمر مهم جدا لهذا الانتقال الهادئ، ذلك أن فراغ السلطة له محاذيره السياسية في كل دول العالم، كما أن هذا الانتقال السلس للسلطة، لاقى ارتياحا كبيرا في العالم العربي والإسلامي والدولي، وكان حديثه ومداولاته في وسائل الإعلام كبيرا وصفا وتحليلا، وهو ما عبر عما تسير عليه الروح الهادئة في عُمان والراسخة في القرارات الحصيفة.
ولا شك أن الوصية التي تمت الإشارة إليها مع صدور النظام الأساسي للدولة في عام 1996، قد حددت إجراءات انتقال السلطة، وتم الاتفاق عليها بما وضعته بعد ذلك من أسس بعد التداول والمناقشة، وأتذكر أنه بعد حادث السير العرضي الذي حدث لجلالة السلطان الراحل في أحد الشوارع عام 1995، بعدها جاء في مجلة (الوطن العربي) الأسبوعية التي تصدر في باريس، التي يرأس تحريرها الصحفي اللبناني وليد أبو ظهر، أجرى حوارًا واسعًا في ديسمبر 1997، مع السياسي والدبلوماسي الأمريكي «روبرت بيلليترو» مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، حول التحولات والمستجدات في المنطقة العربية، وعلى الوجه الأخص في الخليج والجزيرة العربية، وفي الحلقة الأولى من هذا الحوار، والذي تركز على عُمان، وبرز على غلاف المجلة العنوان الآتي: (مستقبل حارس مضيق هرمز: ماذا بعد السلطان قابوس؟)، كانت القضية الأساسية هي مستقبل هذا البلد المهم جغرافيا وسياسيا، ومما قال «بيلليترو» في الرد على التساؤلات الصحفية من أبو ظهر، التي تركزت الحادث العرضي كما أشرنا إلى ذلك فقال: إن اهتمامنا بسلطنة عُمان «لسبب أساسي ووجيه وهو موقع عُمان على بوابة الخليج وحرصنا على «حارس مضيق هرمز» وأهمية ضمان الاستقرار في هذا البلد مستقبلًا»، مشيرا في فقرة أخرى من الحوار إلى أن «حساسية مضيق هرمز وحيويته وفراغ السلطة.. والقلق من انعكاساته على الأمن والاستقرار».
ولا شك أن مبعث القلق الذي طُرح في هذا الحوار، ليس له حظ من التوقع كما سارت عليه الأمور في ساعات قليلة بعد فتح الوصية، والتي بهرت المحللين والمتابعين للشؤون العمانية كما عُرف عنها، وهو ما يؤكد أن عُمان دائما تتجه للطريق الإيجابي القائم على اتخاذ القرار الثاقب والواعي لكل الظروف والمتغيرات، كما أنها لا تحرق المراحل، دون أن تحسب حسابات منطقية وعقلانية في رسم السياسة المقبلة، لما يحقق مرادها وهدفها الصائب المواقف في هذا الشأن لا يتسع المال لسردها، وهي رسالة اطمئنان لكل متابع ويهمه هذا البلد واستقراره ودوره المحوري في المنطقة، وهذا ما قاله جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- في اليوم الأول لتوليه الحكم: «إننا سوف نترسّم خُطى السلطان الراحل، مؤكدين على الثوابت التي اختطها لسياسة بلادنا الخارجية القائمة على التعايش السلمي بين الأمم والشعوب، وحسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.. وعلى التعاون الدولي في مختلف المجالات»، ولا شك جلالته وفقه الله حدد الثوابت الراسخة في السياسة العمانية الخارجية التي تقوم عليها هذه الثوابت، لكن السياسة التي تسير عليها إلى جانب الثوابت توجد هناك متغيرات قد تحدث في السياسات وتحولاتها وتغيراتها وفق المستجدات، من هنا اتجهت السياسة العمانية، كما عبر عنها جلالة السلطان هيثم في خطابه في 23 فبراير 2020، أن دور عُمان سيبقى كما كان في مرحلتها المتجددة فقال: «ستواصل عمان دورها كعضو فاعل في منظمة الأمم المتحدة تحترم ميثاقها، وتعمل مع الدول الأعضاء على تحقيق السلم والأمن الدوليين، ونشر الرخاء الاقتصادي في جميع دول العالم، وسنبني علاقاتنا مع جميع دول العالم على تراث عظيم خلفه لنا السلطان الراحل عليه رحمة الله ومغفرته، أساسه الالتزام بعلاقات الصداقة والتعاون مع الجميع، واحترام المواثيق والقوانين والاتفاقيات التي أمضيناها مع مختلف الدول والمنظمات».
وفي البناء الداخلي للبلاد، كما رسمه جلالته -حفظه الله- في خطاباته التي قالها، وفي حواراته مع الشيوخ والأعيان في عدد من المحافظات، أكد أهمية البناء والتنمية، وعلى مسيرة النهضة الحديثة والمتجددة لعُمان، وهو ما قاله في هذا الخطاب التاريخي المشار إليه آنفا: «إننا نقف اليوم، بإرادة صلبة، وعزيمة لا تلين على أعتاب مرحلة مهمة من مراحل التنمية والبناء في عمان، مرحلة شاركتم في رسم تطلعاتها، في الرؤية المستقبلية «عمان2040»، وأسهمتم في وضع توجهاتها وأهدافها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما يجسد الرؤية الواضحة، والطموحات العظيمة لمستقبل أكثر ازدهارا ونماء، وإننا لندرك جميعا التحديات التي تمليها الظروف الدولية الراهنة، وتأثيراتها على المنطقة وعلينا، كوننا جزءا حيا من هذا العالم، نتفاعل معه، فنؤثر فيه ونتأثر به». هذه العزيمة والإرادة التي انطلقت بها نهضتنا المتجددة التي سار عليها جلالته -وفقه الله- حققت الكثير من الأهداف التي سعت إليها، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية التي كانت قائمة، ثم في أزمة كوفيد 19، وقبل ذلك انخفاض أسعار النفط إلى مستويات منخفضة، مما أثر في الحركة الاقتصادية والتنموية، وهي قضية عالمية، لكن نهضتنا المتجددة تعاملت بخطوات واقعية متوازنة لمواجهة الدين العام، وفي الوقت نفسه حافظت على مصلحة المواطنين في حياتهم الأساسية التي تعد من الأولويات التي لا يمكن المساس بها.
وفي لقاءات جلالته -حفظه الله- مع الشيوخ والأعيان في العديد من المحافظات بسلطنة عُمان، أكد جلالته أهمية دور المحافظات في التنمية والنماء بها من خلال مشاريعها، وقال في أحد اللقاءات -أيده الله- على ضرورة إعطاء المحافظين الصلاحية في إدارة شؤون هذه المحافظات، وعلى اللامركزية في نشاطها وفق الصلاحيات الممنوحة لها، وعملها في الخطط والمشاريع التنموية، وقد صدر بعد ذلك نظام المحافظات، والذي حدّد كما نُشر عن هذا النظام، والذي يحمل رقم 36/ 2022: «حيث تم وضع اختصاصات واضحة وواسعة ومرنة للمحافظين؛ لتمكينهم من القيام بمهام تنفيذية مباشرة، فيما يتصل بالتنمية الاقتصادية، وتعزيز مصادر الدخل الذاتية في المحافظة، وتعزيز تنافسيها، وتشجيع الاستثمارات فيها، بما يلبي تطلعات واحتياجات المواطنين، وبما ينسجم مع الأهداف والخطط الحكومية في هذا الشأن».
ولا شك أن القوانين والنظم للمحافظات والمجالس البلدية التي تتبعها، سوف تؤدي دورا محوريا في متابعة مشروعاتها، من أجل التنمية المستدامة للمحافظات، وتهيئة البيئة الجاذبة للاستثمارات فيها، وتنمية مواردها، والارتقاء بالخدمات والأنشطة المحلية والبلدية فيها.
ولا شك أن النهضة المتجددة التي يقودها جلالة السلطان، تسير بخطى متوازنة وحثيثة، لتحقيق التنمية التي تسعى إليها بلادنا في شتى المجالات، من خلال تجديد الروي والأفكار التي تسهم في الارتقاء بالنظم والقوانين التي تتواءم مع الخطة الاستراتيجية العمانية 2040، التي أشرف عليها جلالته حفظه الله وأبقاه.
