السياسات الاقتصادية الكلية والميزانية العامة للدولة

09 يناير 2023
09 يناير 2023

(الميزانية العامة للدولة شملت أبرز ما تسعى لتحقيقه أدبيات السياسات الاقتصادية الكلية، ففي حين أن العالم يكاد يُجمع على أن العام الجاري سيشهد تراجعا اقتصاديا عالمياً، تستهدف الميزانية نمواً في الاقتصاد الوطني بما لا يقل عن 3%، علاوةً على التزامها بإبقاء معدل التضخم في الحدود المقبولة بما لا يُؤثر على مستوى معيشة المواطنين).

تُعرف السياسات الاقتصادية الكلية بأنها مجموعة القرارات والإجراءات التي تسعى الحكومة من خلالها إلى تحقيق هدف أو عدة أهداف اقتصادية كلية خلال فترة زمنية محددة، وبصورة أكثر وضوحاً يمكن القول إن السياسات الاقتصادية الكلية هي بمثابة الإطار العام الذي يحدد الأدوات التي تؤثر بها الحكومة على النشاط الاقتصادي الكلي. وتتسم السياسات الاقتصادية بسمات خاصة بها، فهي في المقام الأول سياسات تصدر من الحكومة فقط، فالحكومة بمؤسساتها «البنك المركزي، والوزارات المعنية بالمال والاقتصاد» وحدها المناطة بمسؤولية اختيار السياسات المناسبة وأدواتها وتنفيذها ومتابعتها، إضافة إلى ذلك فإن السياسات الاقتصادية الكلية في كون أنها محددة تحديداً دقيقاً فهي تستهدف الأبعاد العامة للاقتصاد الكلي مثل النمو الاقتصادي، ومعدلات التضخم واستقرار الأسعار، وإعادة توزيع الدخل لسد فجوة تفاوت الدخول، والتشغيل الكامل للقوى العاملة، الدين العام وغيرها من المسائل الاقتصادية ذات الطابع العام، حيث إنها لا تشتغل بالأبعاد الاقتصادية الجزئية إلا نادراً وفي الحالات التي تكون فيها الوحدات الجزئية ذات تأثير واسع على الاقتصاد الكلي، الأمر الآخر الذي يتميز به هذا النوع من السياسات أنها سياسات ديناميكية، فهي تتماشى مع مقتضيات الأحوال التي تطرأ على الاقتصاد، فمثلا في حالات الانكماش الاقتصادي تسعى السياسات الاقتصادية إلى تحفيز النمو الاقتصادي ومعالجة تباطئه، أما في حالة الرّواج والازدهار الاقتصادي فإنها تتدخل لضمان استقرار الاقتصاد ونموه بما لا يخل باستدامته.

وتأكيداً على كلية وشمولية السياسات الاقتصادية، ولأنها لا تستهدف التركيز على إنتاجية قطاع اقتصادي بعينه، بقدر ما تستهدف إجمالي القطاعات والأنشطة المؤثرة في العملية الإنتاجية للاقتصاد، فإن أية سياسات يتم اتخاذها لدعم الاقتصاد لا يخرج تأثيرها عن الفاعلين الأربعة الأساسيين في العملية الاقتصادية، وهم: الأفراد، والقطاع العام، والقطاع الخاص، والعالم الخارجي (التجارة الخارجية). ويشغل النمو الاقتصادي الحيز الأكبر في مستهدفات السياسات الاقتصادية الكلية، كونه المحرك الرئيس للتنمية الاقتصادية واستدامتها، ففي حين أن النمو الاقتصادي يعبر دائماً عن التطور الكمي للناتج المحلي الإجمالي، تركز التنمية الاقتصادية على التطورات النوعية والتحسن الحاصل في مستوى معيشة الأفراد ونمط وجودة حياتهم والتطور في نوعية السلع والخدمات المنتجة أو المستوردة في البلد. وبجانب هذين الهدفين، هناك أبعاد تنموية ضمن إطار أهداف السياسات الاقتصادية الكلية، نجملها فيما يلي:

- الحفاظ على مستوى قريب من مستوى التوظف الكامل لقوة العمل. والحفاظ على مستوى عالٍ من الإنفاق الاستثماري (عام أو خاص). والحد من مقدار العجز في ميزان المدفوعات وتحسينه. و احتواء الضغوط التضخمية في الاقتصاد. و حماية ورفع مستوى معيشة المواطنين.

تُقسم السياسات الاقتصادية الكلية عادةً إلى سياسات مالية وأخرى نقدية، وتقع السياسة المالية ضمن مهام المؤسسات المالية، وأهم أدواتها الإنفاق الحكومي والضرائب، في حين أن السياسة النقدية ينفرد بها البنك المركزي ويناط بها تحقيق التوازن في العرض والطلب على النقود، وهذا التقسيم لا يعني استقلالية السياسات المالية عن السياسات النقدية، بل إن تكاملها ضرورة لنجاح السياسات الاقتصادية بشكل عام، لذلك فإن التوجه الحديث ينحى منحى المزج بين أدوات السياستين والخروج بسياسات تلائم الوضع الاقتصادي وتحقق مستهدفاته.

تُصنف الميزانية العامة للدولة ضمن أدوات السياسة المالية، وهي دون أدنى شك تعد أهم وثيقة مالية واقتصادية للدولة، حيث تقدم الميزانية العامة الإطار المالي الوطني لفترة زمنية عادة ما تكون اثنا عشر شهراً وتسمى السنة المالية، وتُقسم الميزانية العامة إلى عنصرين رئيسيين هما إيرادات ونفقات، ويكون الفرق بينهما إما عجزاً يتم تمويله من خلال وسائل التمويل المختلفة، أو فائضاً يتم استثماره أو ادخاره، وهي معنية- أي الميزانية العامة- بشكل مباشر بتحديد الاستخدام الأمثل للموارد العامة من خلال التحصيل المحاسبي للإيرادات وتحديد بنود الصرف على المصروفات الجارية والاستثمارية، لذلك فهي تقوم بدور حاسم في تحديد مستوى النشاط الاقتصادي، إضافة إلى أنها أداة فاعلة لتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المستهدفة.

نظرة عامة على ميزانية 2023

إن الفهم الواسع للميزانية العامة عند قراءتها يجب أن يتعدى العملية المحاسبية (إيرادات ومصروفات) إلى فهمها على أنها برنامج العمل التنموي السنوي للحكومة، والمشتملة على أهداف محددة وواضحة، والجدير بالذكر أن الفترة الزمنية السنوية للميزانية لا يعني أنها لا تنتمي لما قبلها من سنوات أو لما بعدها، بل هي أساساً ترجمة للخطط التنموية الخمسية من جانب، ومرتبطة بخطة التوازن المالي والتحفيز الاقتصادي من جانب آخر. وبالرغم من أن الوضع الاقتصادي العالمي ما يزال يعاني من ارتدادات جائحة كورونا والأوضاع الجيوسياسية غير المستقرة، إلا أن الميزانية العامة لسلطنة عُمان لكونها أداة من أدوات السياسة الاقتصادية الكلية تضمنت تسعة أهداف اقتصادية واجتماعية كما يلي:

الحفاظ على الاستقرار المالي والاقتصادي، تحقيق نمو اقتصادي لا يقل عن 3%، إبقاء معدلات التضخم في مستويات معتدلة بحدود 3%، الحفاظ على مستوى الخدمات الاجتماعية الأساسية الحكومية، ضمان استمرار دعم التنويع الاقتصادي، ضمن استمرار الخطة الحكومية في استيعاب الباحثين عن عمل، تحسين التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان، دعم برامج تنمية المحافظات ودعم التنافسية الإقليمية وتنمية مصادر الدخل، الاستمرار في تنفيذ خطة التحول الرقمي.

وبالنظر إلى المستهدفات التسعة - آنفة الذكر- نجد أن الميزانية العامة للدولة شملت أبرز ما تسعى لتحقيقه أدبيات السياسات الاقتصادية الكلية، ففي حين أن العالم يكاد يُجمع على أن العام الجاري سيشهد تراجعا اقتصاديا عالمياً، تستهدف الميزانية نمواً في الاقتصاد الوطني بما لا يقل عن 3%، علاوةً على التزامها بإبقاء معدل التضخم في الحدود المقبولة بما لا يُؤثر على مستوى معيشة المواطنين بخلاف ما تعاني منه دول كثيرة حول العالم والتي وصلت معدلات التضخم فيها إلى أكثر من 8%، إضافةً إلى التأكيد على مواصلة الجهود لاستيعاب الباحثين عن عمل في سوق العمل، ويأتي أيضاً كل من التنويع الاقتصادي وتنمية مصادر الدخل وتحسين التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان ضمن أهداف الميزانية العامة وكلاهما يتصل اتصالاً وثيقاً بالاستدامة المالية والاقتصادية للدولة، كما أن التوجه في إنفاذ اللامركزية الإدارية للمحافظات عن طريق دعم برامج التنمية بها هو ضمن أهداف الميزانية لهذا العام لأول مرة. إن تحديد السياسات الاقتصادية الأنسب ليس بالأمر الهين على صُنّاع القرار، خاصة في الأوضاع التي يتسم فيها الاقتصاد العالمي بالضبابية، بيد أن الميزانية العامة لسلطنة عُمان جاءت متزنة تسعى إلى تحقيق مستهدفات محلية مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية العالمية الراهنة.

ماجد بن عابد باحث اقتصادي