في المسكوت عنه من مكافحة المخدرات

08 يناير 2023
08 يناير 2023

قبل عقود من اليوم كان الحديث عن مرض السرطان بإعلان اسمه الصريح ضربا من المستحيل، إذ كان الناس يستعيضون عن السرطان "بالخبيث"، وبإسرار وتكتم شديدين يتبعونها همسات وهمهمات رعب أن "عافانا الله" وعلى صعوبة المرض وتعقيده ما كان ينبغي هذا الحرص في الكتمان والمبالغة في التخفي إن آمنا بأن الأمراض كلها ابتلاء من الله، واجبة الشكر مستحقة للصبر، وللمرض أشكال شتّى قد يتلبس بعضها اسم السرطان وقد يتلبس أسماء أخرى من أمراض دائمة وأسقام عصيّة.

وما نخشاه اليوم لا بد من حصره وتحديده والحديث عنه دون إخفاء أو تورية بغية معرفة اتقائه وتقييد انتشاره وسرعة علاجه، وإلا اتسع الخِرقُ على الراتقِ كميّا ونوعيا، فلا تعود الوقاية سبيلا ولا يعود العلاج ممكنا.

حديث اليوم عن الإدمان، مرضا لا بد من مواجهته، ولا سبيل لإخفائه أو إنكاره، ولولا سرعة انتشاره وزيادة حالاته ما وجدت استراتيجيات وطنية كبرى في الكثير من دول العالم لمكافحة المخدرات سعيا لإنقاذ شباب اليوم من الوقوع في شركه وحبائله، فقد صار الطعم الأول بسهولة قطع الحلوى بألوانها البرّاقة، أو حبوب التخسيس أو التجميل بأسمائها المغرية، وبعد الوقوع في مصيدة الجرعات الأولى لا أسهل من انتشارها الأسرع من تسويق الماء عبر منصات رقمية تسوّق الهلاك والموت البطيء، وقد كان الأصل فيها تسويق الغذاء والعلاج والمعرفة.

وضمن هذه الجهود المدركة صعوبة هذه الظاهرة عالميا، وتسارع وسائل انتشارها إقليميا ركّز صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- في اجتماع مجلس الوزراء قبل أيام على تقدير البيانات الواردة بشأن مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية مثمنا الجهود المبذولة من قبل الجهات المعنية لمكافحة هذه الظاهرة والحد منها؛ مؤكدًا، حفظه الله، على اعتماد الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بسلطنة عُمان للأعوام 2023 - 2028م، موجهًا جلالته الجهات المعنية باتخاذ الإجراءات اللازمة ووسائل الردع الضرورية للحد من هذه الظاهرة نظرًا لآثارها السلبية (صحيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا).

وفي هذا السياق وتضامنا مع الجهود الساعية لتطويق هذه الظاهرة المتسارعة بين شباب اليوم لا بد من تكامل الجهود الأسرية والمجتمعية والمؤسسية عملا دؤبا آخذا بمسارين متوازين لا بد منهما معا: أما الأول والأهم فالوقاية والتوعية منذ مراحل التعليم الأولى حول خطر الوقوع في شرك المخدرات من أي باب من أبوابها، سواء كان باب المحاكاة والتقليد، أو الإغراء والتضليل، أو الإحباط واليأس، فكلها تفضي إلى معاناة مع الإدمان مرضا صعبا بكل مستوياته، مع المريض نفسه في اعترافه بالمرض أولا، ثم بحاجته إلى العلاج مع استمراره وثباته دون التراجع والعودة بعد العلاج، وأخيرا في تقبل الآخر مجتمعيا لهذا المرض دون تحميل المريض صفة "المجرم" ومعاقبته عليه دون وعي بأن الأجدى حينها إقناعه بالتعافي بعيدا عن تحميله وزر التعاطي، ثم المسار الثاني الموازي في توسيع دائرة العلاج والتعافي بزيادة عدد المراكز العلاجية وقنوات التنفيس والمشاركة دون الإقصاء والتهميش.

ليست هذه المقالة بطبيعة الحال محاولة لتبرير التعاطي، ولا دعوة للاستهانة به، بل هي على العكس من ذلك تماما ترومُ دق ناقوس الخطر حول إحصائيات جادة ومؤشرات واقعية صرّح بها مقرر اللجنة الوطنية لشؤون المخدرات والمؤثرات العقلية، د.محمود بن زاهر العبري، حيث ذكر بأن الحالات المسجلة حتى نهاية عام 2021هي 7666 حالة عن طريق المؤسسات الصحية وحدها، وللقارئ أن يتخيل عدد المدمنين ممن لم يطلبوا العلاج ولم يسعوا إليه، ثم مؤشرات أخرى أكثر حدّة في أن أعمار المتعاطين انخفض عما كان مألوفا من فئة الثلاثينات إلى أعمار المراهقين بين 16-18 سنة مما يؤدي إلى صعوبة إدراكهم أهمية التعافي أو وسائله، والأخطر من ذلك زيادة عدد النساء من مرضى الإدمان .

لم يعد بالإمكان إخفاء هذه الآفة الخطيرة، لما لها من تداعيات نفسية عاطفية متمثلة في معاناة أسرة كاملة مع ابن مريض أو ابنة مريضة، ثم معاناة أخرى من احتمالية الوفاة بجرعة زائدة تقضي على عمر كامل من الأحلام والطموح والذكريات، أو تداعيات اجتماعية لما يمكن أن يصدر عن هذا المريض غير المسؤول من قول أو سلوك قد يفضي به إلى الإجرام أو الانتحار، ثم تداعيات وطنية حين تتقلص أعداد الشباب المعوّل عليهم لبناء هذا الوطن وتنميته ورفعته في تحولهم لهمٍّ أسري مجتمعي وطني بدلا من طاقات خلاقة بنّاءة.

ونحن في سلطنة عمان نستطيع الكثير من الممكن في احتواء شبابنا عاطفيا وأسريا ومجتمعيا، والتأكيد على مبدأ تقدير المرض بغض النظر عن أسبابه بعد وقوعه، فذلك المريض المدمن ليس إلا طفلك الذي ضلّ طريقه وغوى دربه، ويمكن لكفّك الحانية أن تأخذ بيده إلى سلامة وعافية، أو أن تحتويه عطفا ومحبة، دون مبالغة في الدلال، أو إفراط في القسوة، والأهم من ذلك كله القدرة على اتخاذ القرار في علاجه العاجل بعيدا عن محاولة التخفي شعورا بالخزي والعار، إذ لا خزي من مرض ولا عار مع أسرة تحاول تدارك ما انفرط ولو بعد حين.

وفي الختام مع شكر المبذول من الجهود لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية بسلطنة عمان للأعوام ( 2023-2028) إلا أن المؤمل كثيرٌ في تسريع التنفيذ، خصوصا فيما يتعلق ببناء مراكز التعافي الحكومية والخاصة، وتزويدها بكفاءات تستشعر واجبها الإنساني والوطني في التصدي لهذا المرض ومكافحة هذه الآفة المجتمعية بكل السبل، رعاية لدموع الأمهات ومستقبل الشباب، وأحلام الوطن.