الدولة العربية التقليدية ومسألة الانفتاح على الغرب
بعد نهضة الغرب وتطوره العلمي والتكنولوجي منذ القرن الثامن عشر وما بعده، كان الوطن العربي والإسلامي في هذا الوقت يعيش واقعا متخلفا في شتى الميادين العلمية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا حدث بالتزامن مع تراجع الدولة العثمانية التي كانت تسمى الخلافة الإسلامية منذ عدة قرون، وجاء هذا التراجع في فترة حروبها وصراعاتها مع الدول الغربية، وأدى إلى ضعفها وضعف العالم العربي معها كنتيجة من نتائج هذه الصراعات، مما أدى إلى خسارتها في حروبها الكثيرة مع الدول الغربية، خاصة أوروبا الشرقية في بدايات حروبها مع روسيا القيصرية وصربيا وممالك كثيرة في شرق أوروبا، وهذا جاء في فترة النهضة الكبيرة لبعض دول الغربية كبريطانيا وألمانيا وفرنسا، بالإضافة إلى الولايات المتحدة التي أتت نهضتها متأخرة عن بقية دول أوروبا، وعلاقتها شبه معدومة مع الدولة العثمانية وكذلك البلاد العربية، وقد تزامن هذا الأمر في التراجع والتخلف، كما أسرنا آنفا، ببروز المخططات الاستعمارية في السيطرة على البلاد العربية وحصار الرجل المريض (تركيا)، الذي لم يعد البعبع الذي يخيف الغرب كما كان في بدايات قيام هذه الدولة وتماسكها السياسي والعسكري، ونتيجة لهذه الهزيمة التي حصلت للعثمانيين، وضعت الدول الأوروبية شروط إجبارية بعد هزيمتها مع المحور في الحرب العالمية الأولى، والتي تنتهي هذا العام 2023.
ولا شك أن التخطيط الغربي لاحتلال البلدان العربية، لم يكن أيضا وليد ضعف العثمانيين، ولا مشاريع محمد علي باشا في مصر، بل كانت الفكرة لها مقدمات منذ قرون، وقبل حملة نابليون في القرن السابع عشر، لأسباب اقتصادية وسياسية ودينية، وكذلك منعهم من النهوض العلمي والتكنولوجي، منها مشروع محمد علي باشا في مصر الذي تم إجهاض مشروعه النهضوي، حتى لا يكون سداً منيعا للتوجه الغربي الذي يريد فرض سيطردنه دون معوقات عسكرية أو سياسية في القرنين الماضيين. ولا شك أن الظروف التي وجدت بسبب ضعف الدولة العثمانية، بدأ التحرك من هذه الدول لتستفرد بالدول العربية التي تعيش تخلفا في كل المجالات، ولذلك أصبحت مجالاً خصباً للاحتلال الذي كانت تراوده الفكرة منذ الحملات الصليبية، خاصة من قبل المملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا، من هنا كانت مخططات الاستعمار بداية من خلال إرسال المئات من الباحثين الغربيين من حركة الاستشراق في شتى مجالات البحث والتخصصات إلى البلدان العربية لاستكشاف والاطلاع ومعرفة الطرق والمسالك، إلى جانب الحملات التنصيرية التي أيضا تقوم بالتبشير من خلال الأنشطة الإنسانية في القرى والمناطق الفقيرة، ومع الدعوة لنشر المسيحية، ونجح الاستعمار في هذا المخطط نجاحا كبيرا خاصة من خلال تحركات جحافل الاستشراق، وفعلا اجتاح أغلب الدول العربية واستعمرها خاصة الشرق الأوسط في البداية، وشجع الابتعاث من أبناء هذه الدول للالتحاق بجامعات الغربية، وهذا التوجه منه ليس من أجل التعليم الخالص، وإنما من أجل تغريبهم وجعلهم مجرد نواة لتنفيذ مخططه في نشر فلسفاته الاقتصادية والفلسفية والرؤية الاقتصادية ـ النزعة الرأسمالية والحرية الاقتصادية، ثم الليبرالية الفردية التي جاءت بعد التعديلات التي جرت للرأسمالية بعد ذلك.
وبعد عودة بعض هؤلاء الذين تم ابتعاثهم من بريطانيا وفرنسا، انكشف لهؤلاء الطلاب ما تحقق في الغرب من تطورات علمية وتكنولوجية ونهضة عمرانية، وقفزات في كل مناحي الحياة، وأصبحوا مبهورين بما تحقق في الغرب، فاهتم الاستعمار بتشجيعهم لتطبيق النظام الرأسمالي والحريات العامة، مثل السينما والمسرح والصحافة الخاصة، إلى جانب محاولة تغريب النظم التعليمية والثقافية، فتم إقصاء نظام الأوقاف الإسلامي، والذي يمثل أحد أهم اقتصاديات الحياة في البلاد العربية، وفي البلاد الإسلامية أيضا، وأصبح الوقف بعد إقصائه مجرد مسألة شخصية وفردية من يرغب في ذلك، وليس نظاما مؤسسيا فاعلا للدولة ومؤسساتها الوقفية كما كان دولاه في السابق في الخلاقة الإسلامية منذ القرون الأولى، والنظام الليبرالي الذي أراده الاستعمار أن يطبقه، هدفه ربط هذا النظام بما يتم في الغرب، وفعلاً أصبحت الدولة العربية التقليدية التي وجدت بعد انهيار الدولة العثمانية، وتم إنشاؤها بعد ذلك، أو الدولة التقليدية التي كانت قائمة بنظمها التقليدية السائدة منذ قرون في بعضها، خاصة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن الاستعمار فرض النظام الرأسمالي، وجعله مثلما كان في الغرب مطبقا، من حيث الملكيات الخاصة، والعمل الحر دون أنظمة تحد من التوحش الاقتصادي الرأسمالي، وبدلا من تتقدم الحرة الاقتصادية في تحريك حركة السوق في العرض والطلب، فإن هذا النظام أضر بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، حيث عدم وجود قوانين تحد من هذا النظام الذي أدى إلى مشكلات اجتماعية، إلى جانب الرفض الشعبي في غالبيته من هذا الاستعمار وتطبيقاته وسياسته القمعية عندما أحس بالفرض الشعبي لاحتلاله وهيمنته وفرض نموذجه بالبطش أحيانا.
ويذكر المفكر والباحث د. محمد عمارة في كتابه (الوعي بالتاريخ)، كاشفا الفترة التي برزت فيها المحاولات الاستعمارية في فرض نظامه الاقتصادي والسياسي والفكري من خلال بعض ممن درس في الغرب ورافضين للنموذج الغربي بالقسر والفرض، مع أن حرية التجارة والانفتاح الاقتصادي موجود في الرؤية العربية الإسلامية، لكن الصلة كانت: "مقطوعة بين هؤلاء المفكرين والفكر الليبرالي الأوروبي.. فالمد الاستعماري والزحف الأمبريالي الأوروبي على بلاد الشرق والشرقيين.. ذلك الزحف الذي لم ينقل إلى الشرق حضارة الغرب، ولكنه كان بمثابة التيار الكهربائي الذي "مس" الشرقيين، فلم يصعقهم إلى حد الموت". كانت الدعوات الاستعمارية إلى نهضة البلاد المستعمرة، لم نكن بتلك الرغبة الصحية والجادة، وإنما كانت مجرد غطاء براق وفضفاض، وهدفه إخفاء ما يريده حقيقة من رفع كلمة نهضة البلاد المستعمرة، والخروج من كبوتها وتخلفها، فهي يرغب في التظليل مما يخطط له من مطامع اقتصادية وفكرية وسياسية، وهذا ما عبر عنه الاستاذ د. يحيى الجمل في كتابه (الأنظمة السياسية المعاصرة)، وكيف أن الاستعمار رفع شعارات هدفها إخفاء مخططاته في نهب دول العالم الثالث التي استعمرها، وفي المقابل لم يقدم ما يجب أن تحصل عليه هذه الدول التي أعطت من مقوماتها دون أن تأخذ مما استفاد منه الاستعمار لمصلحته، ويرى د. الجمل أن : "الاستعمار في بعض تلك البلاد بشق الطرق وتمهيدها وإنشاء بعض الموانئ كان ذلك مرتبطًا أساسًا بعملية الاستغلال الاقتصادي لتلك البلاد لمصلحة الدول الاستعمارية ولم يكن مقصودًا به خدمة البلاد المحتلة نفسها، ذلك أن عمليات نقل المواد الخام من البلاد المحتلة إلى البلاد الاستعمارية كانت تقتضي تمهيد طرق وإنشاء موانئ وما إلى ذلك من أمور، ثم فإن هذه العمليات التعميرية الجزئية كان هدفها أساسًا وكان القصد من إنشائها خدمة الدول الاستعمارية والمساعدة على امتصاص ثروات البلاد المستعمرة".
ولا شك لأن التجربة الليبرالية، كما أرادها المستعمر، لم تكن مقبولة بصفة عامة لكل الشعوب، بكل فئاته الاجتماعية، بل أنها انحازت لأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، و(تركت الحبل الغارب) كما يقول المثل، على الطريقة التي طبقت في بدايات تطبيقاتها في الغرب، وليس ما آلت إليه بعد الثورات التي حدثت في الغرب نفسه، مما أدى إلى تعديلات خُفف من غلواء الجشع الليبرالي بصورته القديمة، وهو ما أدى إلى رفض واستهجان غالبية العظمى من الشعوب، مما تعاظم الرفض للاحتلال مع رفض التطبيق الليبرالي بصورة غير المتوازنة، ولا شك أن الرؤية الليبرالية للحرية الإعلامية والصحفية، كانت أفضل من تم وضعه من تطبيقات في الليبرالية في بعض البلاد العربية التي تم الاستفادة منها، وكانت في أغلب الصحافة الخاصة، رقيبا على الوضع السلبي الاستعماري والتطبيقات الفردية للحرية الاقتصادية، ولا سيما في مصر، التي تحققت فيها الليبرالية بصورة واضحة وفاعلة، ويرى د. حسن محمد شافعي، في حديثه عن الليبرالية العربية، كما سماها خاصة التجربة في مصر، بأنها وقعت: "في ثنائية النخبوية الفكرية والتمليكة الطبقية كان أحد أسباب ضعف التجربة المصرية الليبرالية كأول تجربة ليبرالية رسمية في العالم العربي، من حيث أنه ظل المبدأ الليبرالي في برج المفكرين العاجي بعيدًا عن الممارسات الجماهيرية، والذي يحتاج لكي يتحول إلى برنامج عمل أن يتعاطى مع أوضاع اجتماعية استقرت بالفعل، وإلى استدعاء مرحلي متدرج يحتاج للبرهنة على صحته تبريرًا نظريًا وآليات عمل". من هنا تقلصت التجربة، منذ النصف الأول من القرن الماضي، مع المد القومي والرؤى الإسلامية المتعاظمة للرفض الاستعماري ومقاومته له ولتجربته إياها بعد رحيله، وإن كان هذه التجربة بعض الإيجابيات لا شك، فظهرت بعد انزوى التجربة، جاءت الدولة القُطرية كبديل للدولة التقليدية في البلاد العربية المؤثرة.. وللحديث بقية.
